كل طرف سـرورا، وفي كل زاويـة حبـورا، وفي كل مكان محاريبَ ذِكر.. حتى لقد صار يرى كل فرد من أفراد هذه المملكة صديقا صدوقا وقريبا حبيبا له. ثم يرى أن المملكة كلَّها تعلن -في حفل التسريح العام- هتافات الفرح بصيحة مصحوبة بكلمات الشكر والثناء. ويسمع فيهم أيضا أصواتَ الجوقة الموسيقية وهي تقدّم ألحانَها الحماسية مقترنة بالتكبيرات العالية والتهليلات الحارة بسعادة واعتزاز للذين يُساقون إلى الخدمة والجندية.

فبينما كان ذلك الرجلُ الأول المتشائم منشغلا بألَمِه وآلام الناس كلِّهم. كان الثاني السعيدُ المتفائل مسرورا مع سرور الناس كلِّهم فَرِحا مع فرحهم. فضلا عن أنه غَنِم لنفسه تجارة حسنة مباركة فشكر ربَّه وحمده.

ولدى عودته إلى أهله، يَلقى ذلك الرجلَ فيسأل عنه وعن أخباره، فيعلم كل شيء عن حاله فيقول له: «يا هذا لقد جُنِنتَ! فإنّ ما في باطنك من الشؤم انعكس على ظاهرك، بحيث أصبحتَ تتوهم أن كل ابتسامة صراخ ودموع، وأنّ كل تسريح وإجازة نَهب وسلب. عُد إلى رُشدك، وطهّر قلبَك، لعل هذا الغشاء النكد ينـزاح عن عينيك. وعسى أن تبصر الحقيقة على وجهها الأبلج. فإن صاحب هذه المملكة ومالكَها وهو في منتهى درجات العدل والمرحمة والربوبية والاقتدار والتنظيم المبدع والرفق.. وإن مملكة بمثل هذه الدرجة من الرقي والسمو مما تريك من آثار بأم عينيك.. لا يمكن أن تكون بمثل ما تريه أوهامُك من صور».

وبعد ذلك بدأ هذا الشقي يراجع نفسَه ويرجع إلى صوابه رويدا رويدا، ويفكر بعقله ويقول متندما: «نعم لقد أصابني جنون لكثرة تعاطي الخمر.. ليرضَ الله عنك، فلقد أنقذتَني من جحيم الشقاء».

فيا نفسي! اعلمي أن الرجل الأول هو «الكافر» أو «الفاسق الغافل». فهذه الدنيا في نظره بمثابة مأتم عام، وجميع الأحياء أيتام يبكون تألما من ضربات الزوال وصفعات الفراق.

أما الإنسان والحيوان فمخلوقات سائبة بلا راعٍ ولا مالك، تتمزق بمخالب الأجَل وتعتصر بمعصرته. وأما الموجودات الضِّخام -كالجبال والبحار- فهي في حُكم الجنائز الهامدة والنعوش الرهيبة. وأمثال هذه الأوهام المدهشة المؤلمة الناشئة من كفر الإنسان وضلالته تذيق صاحبَها عذابا معنويا مريرا.

Ekranı Genişlet