اثبات التوحيد   الكلمة الرابعة   [ له الملك ]

باسمه سبحانه

ايها المستخلف المبارك

(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)

 

بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة

 

اثبات التوحيد   الكلمة الرابعة   [ له الملك ]

اي ان السموات والارض والدنيا والآخرة وكل موجود، من الفرش الى العرش، من الثرى الى الثريا، من الذرات الى السيارات، من الازل الى الابد هو ملكه. فله سبحانه المرتبة العظمى للمالكية التي تتجلى في اعظم مرتبة للتوحيد.

ولقد اُلقيت الى خاطر هذا العاجز خاطرة لطيفة في وقت لطيف بعبارات عربية اثبتُّها كما هي وابينُها حجةً كبرى لهذه المرتبة العظمى للمالكية والمقام الاعظم للتوحيد:

 [له الملك؛ لان ذاك العالمَ الكبيركهذا العالم الصغير، مصنوعُ قدرته، مكتوبُ قدَره.. ابداعُه لذاك صيّره مسجداً، ايجادُه لهذا صيّره ساجداً.. انشاؤه لذاك صيّر ذاك مُلكاً، ايجادُه لهذا صيّره مملوكاً..صنعتُه في ذاك تظاهرت كتاباً، صبغتُه في هذا تزاهرت خطاباً..قدرته في ذاك تُظهر حشمته، رحمته في هذا تنظِّمُ نعمته..حشمته في ذاك تشهد: هو الواحد، نعمتُه في هذا تعلن: هو الاحد.. سكته في ذاك في الكل والاجزاء، خاتمُه في هذا في الجسم والاعضاء.]

الفقرة الاولى " ذاك العالم الكبير..." الخ.

ان العالم الاكبر اي الكون كله، والانسان وهو العالم الاصغر ومثاله المصغر، يظهران معاً دلائل الوحدانية المسطّرة في الآفاق والانفس بقلم القدر والقدرة.

نعم! ان في الانسان النموذج المصغر للصنعة المنتظمة المتقنة الموجودة في الكون، واذ تشهد الصنعة التي في تلك الدائرة الكبرى على الصانع الواحد، تشير الصنعة الدقيقة المجهرية الموجودة في الانسان الى ذلك الصانع ايضاً وتدل على وحدته، وكما ان هذا الانسان مكتوبٌ رباني ذو مغزى عميق، وقصيدة منظومة للقدر الإلهي، كذلك الكائنات قصيدة قدرية منظومة دبجت بذلك القلم نفسه، وبمقياس مكبر. فهل يمكن لغير الواحد الاحد أن يتدخل في سكة التوحيد المضروبة على وجه الانسان والمتوجهة بالعلامات الفارقة الى ما لا يحد من الناس، او ان يتدخل في ختم الوحدانية المضروب على الكائنات الجاعل موجوداتها كلها متعاونة متكاتفة؟.

الفقرة الثانية: "ابداعه لذاك... "الخ.

ان الصانع الحكيم قد خلق العالم الاكبر خلقاً بديعاً ونقش آيات كبريائه عليه، بحيث جعل الكون على صورة مسجد كبير. وأنشأ سبحانه هذا الانسان في احسن تقويم، واهباً له العقل، بحيث جعله يسجد سجدة اعجاب امام معجزات صنعته وبديع قدرته. واستقرأه ايات كبريائه، حتى صيّره عبداً ساجداً في ذلك المسجد الكبير بما غرز في فطرته من العبودية والخضوع له. فهل من الممكن ان يكون المعبود الحقيقي للساجدين العابدين في هذا المسجد الكبير غير الصانع الواحد الاحد؟.

الفقرة الثالثة: "انشاؤه لذاك... "الخ.

ان مالك الملك ذا الجلال قد انشأ العالم الاكبر، ولاسيما وجه الارض، انشاءً

كأنها دوائر متداخلة بما لاتعد ولاتحصى، كل دائرة بمثابة مزرعة او حقل يزرع فيها، كل وقت وكل موسم وكل عصر، ويحصد ويحصّل على المحاصيل، وهكذا يُشغل مُلكه باستمرار ويتصرف في اموره كل حين. حتى انه جعل اعظم دائرة من تلك الدوائر وهي دائرة الذرات في الكون مزرعة واسعة يزرع فيها ويحصل منها بقدرته وحكمته محاصيل بقدر الكون، ويرسل تلك المحاصيل من عالم الشهادة الى عالم الغيب، ومن دائرة القدرة الى دائرة العلم.

وجعل سبحانه سطح الارض الذي هو دائرة متوسطة بمثابة مزرعة كذلك، بحيث يزرع فيها كل موسم وباستمرار عوالم وانواعاً شتى ويحصدها ويحصّل منها محاصيلها كل فصل وموسم محاصيل معنوية يبعثها ايضاً الى عوالمه الغيبية والاخروية والمثالية والمعنوية..

ثم انه سبحانه يملأ بستاناً في الارض ـ وهو دائرة صغيرة ـ يملأه مرات ومرات بل الف مرة بقدرته ويفرغه بحكمته.

ثم انه سبحانه يحصل من الكائن الحي الذي هو دائرة اصغرـ كالشجرة والانسان ـ يحصل منه مائة ضعف وضعف من المحاصيل.

بمعنى: ان ذلك المالك الملك ذا الجلال قد أنشأ كل شئ ـ جزئيه وكليّه، صغيره وكبيره ـ بمثابة "موديل" يُلبسه مئات منسوجات صنائعه المنقشة بنقوش متجددة بمئات الاشكال والانماط. مظهراً به تجليات اسمائه الحسنى ومعجزات قدرته.وأنشأ كل شئ في ملكه بمثابة صحيفة يكتب فيها كتاباته البليغة بمئات الاشكال والوجوه، مظهراً بها آياته الحكيمة ويستقرئها اهل الشعور من مخلوقاته.

وكما انه قد أنشأ هذا العالم الاكبر ملكاً له، كذلك خلق هذا الانسان مملوكاً له ومنحه من الاجهزة والجوارح والحواس والمشاعر، ولاسيما النفس الامارة والهوى والحاجة والشهية والحرص والطلب، بحيث جعله في ذلك الملك الواسع مملوكاً وعابداً محتاجاً الى جميع ملكه.فهل من الممكن ان يتصرف في ذلك الملك، ويكون سيداً على ذلك المملوك سوى ذلك المالك للملك الذي جعل الموجودات كلها بدءاً من عالم الذرات ذلك العالم الواسع جداً الى جناح الذباب ملكاً ومَزارِع، وجعل

الانسان الصغير ناظراً على ذلك الملك الواسع العظيم ومفتشاً فيه ومزارعاً وتاجراً ودلالاً وعابداً ومملوكاً واتخذه ضيفاً عزيزاً عليه ومخاطباً محبوباً؟

الفقرة الرابعة: "صنعته في ذاك..." الخ

ان صنعة الصانع الجليل في العالم الاكبر تحمل من المعاني الغزيرة ما يظهرها كأنها كتاب بديع، مما دفع عقل الانسان الى استلهام حكمة العلوم الحقيقية منه، ويكتب مكتبتها على وفقه. فذلك الكتاب البديع الحكيم موثوق الصلة بالحقيقة، ومستمدٌ منها الى حدّ اُعلن عنه في صورة قرآن حكيم ـ منظور ـ والذي هو نسخة من الكتاب المبين.

ومثلما اتخذت صنعته سبحانه في الكون كله صورة كتاب بليغ، لكمال انتظامها، كذلك تفتحت صبغته ونقش حكمته في الانسان عن زهرة خطاب.. اي ان تلك الصنعة البديعة ذات مغازٍ دقيقة وجميلة بحيث انطقت ما في تلك الماكنة الحية من اجهزة.. وان ما صبغ بها من صبغة ربانية جعلتها في احسن تقويم حتى تفتحت عن زهرة البيان والخطاب، تلك الزهرة الحيوية المعنوية الغيبية في ذلك الرأس المادي الجامد.. فمنح سبحانه وتعالى رأس الانسان من قابلية النطق والبيان حتى انكشف ما فيه من اجهزة سامية معنوية عن مراتب كثيرة وكثيرة جداً اهّلته لموضع خطاب السلطان الازلى الجليل، مما نال رقياً ورفعةً وسمواً.

اي ان الصبغة الربانية التي في فطرة الانسان قد فتّحت زهرة الخطاب الإلهي.

فهل من الممكن أن يتدخل غير الواحد الاحد في الصنعة التي بلغت حد الاتقان والانتظام في الموجودات كلها حتى كأنها كتاب؟ وهل من الممكن أن يتدخل غيره سبحانه في الصبغة التي في فطرة الانسان التي ارتقت به الى مقام الخطاب؟! حاش لله.. وكلا.

الفقرة الخامسة: "قدرته في ذاك... "الخ.

ان القدرة الإلهية تُظهر عظمة الربوبية في العالم الاكبر، اما الرحمة الربانية فانها تنظّم النِعم في الانسان، العالم الاصغر. اي ان قدرة الصانع ـ من حيث الكبرياء والجلال ـ أوجدت العالم كله كأنه قصر عظيم، وجعلت الشمس فيه سراجاً وهاجاً، والقمر قنديلاً، والنجوم مصابيح، وجعلت سطح الارض سفرة مبسوطة للطعام،

ومزرعة جميلة، وبستاناً زاهياً، وجعلت الجبال مخازن ومستودعات، واوتاداً للتثبيت، وقلاعاً عظيمة.. وهكذا جعلت جميع الاشياء لوازم واثاثاً لذلك القصر المنيف، بمقياس مكبر، واظهرت عظمة ربوبيته سبحانه مثلما اسبغت رحمته سبحانه ـ من حيث الجمال ـ صنوف نعمه على كل كائن حي، حتى على اصغره، ونظّمت عليه، فجمّلت الكائنات طراً بالنعم وزيّنتها باللطف والكرم، دافعة هذه الألسنة الصغيرة الناطقة بجمال الرحمة أن تقابل تلك الألسنة العظيمة الناطقة بجلال العظمة، اي ان الاجرام الكبيرة، كالشمس والعرش حينما تنطق بلسان العظمة: "ياجليل..ياكبير.. ياعظيم"تقابلها ألسنة الرحمة في البعوض والسمك والحيوانات الصغيرة ب"ياجميل..يارحيم.. ياكريم "..مكونة بذلك نغمات منسجمة في موسيقى كبرى، تزيدها حلاوة ولذة.

فهل من الممكن ان يتدخل غير ذلك الجليل ذي الجمال، الجميل ذي الجلال في هذا العالم الاكبر والاصغر، من حيث الخلق والايجاد؟ حاشَ لله... وكلا.

الفقرة السادسة: "حشمته في ذاك... "الخ.

ان عظمة الربوبية الظاهرة في مجموع الكون، تثبت الوحدانية الإلهية وتدل عليها، كما ان النعمة الربانية التي تعطي الارزاق المقننة حتى لجزئيات ذوي الحياة، تثبت الاحدية الإلهية وتدل عليها.

اما الواحدية فتعني: ان جميع تلك الموجودات ملكٌ لصانع واحد، وتتوجه الى صانع واحد، وكلها ايجاد موجِد واحد.

اما الاحدية فهي: ان اكثر اسماء خالق كل شئ يتجلى في كل شئ.

فمثلاً: ان ضوء الشمس ـ بصفة احاطته بسطح الارض كافة ـ يبين مثال الواحدية، وان وجود ضوء الشمس وألوانه السبعة وحرارتها، وظلاً من ظلالها في كل جزء شفاف وفي كل قطرة ماء يبين مثال الاحدية. وكذا فان تجلي اكثر اسماء ذلك الصانع في كل شئ، ولا سيما في كل كائن حي، وبخاصة في كل إنسان يبين مثال الاحدية.

وهكذا فان هذه الفقرة تشير الى عظمة الربوبية التي تصرّف الامور في العالم والتي جعلت تلك الشمس العظيمة سراجاً وهاجاً وخادمة لاحياء الارض. والكرة الارضية

الضخمة مهداً للاحياء ومنزلاً، ومتجراً لها. وجعلت النار طباخة وصديقة مستعدة للقيام بالعمل في كل مكان، والسحاب مصفاة للهواء ومرضعة للاحياء، والجبال مخازن ومستودعات والهواء مروّحاً للانفس والنفوس، والماء مبعثاً للحياة وكالأم الرؤوم للاحياء الجدد. فهذه الربوبية الإلهية تبين الوحدانية الإلهية بوضوح تام.

نعم! من ذا الذي يجعل الشمس مسخرة لسكنة الارض غير الخالق الواحد؟ ومن ذا غير ذلك الواحد الاحد يمسك الهواء ويسخره في وظائف جليلة وعلى سطح الارض كافة؟ ومن غير ذلك الواحد الاحد يقدر على استخدام النار طباخة للاحياء ويجعلها تلتهم اشياء اكبر من حجمها بالاف المرات؟ وهكذا.. فكل شئ وكل عنصر وكل جرم سماوي يدل على الواحد ذي الجلال من حيث تلك الربوبية المهيبة.

فكما تظهر الواحديةُ من حيث الجلال والعظمة، تعلن النعمةُ والاحسانُ الاحديةَ الإلهية من حيث الجمال والرحمة، لان الاحياء ولاسيما الانسان من حيث الصنعة الجامعة المتقنة، يملك من الاجهزة والجوارح بحيث تعرف انواع النعم التي لاتعد ولاتحصى، وتتقبلها وتطلبها.حتى حظي الانسان بتجليات اسماء الله الحسنى كلها كما تتجلى في الكون كله، وكأنه بؤرة تظهر جميع الاسماء الحسنى دفعة واحدة في مرآة ماهيته، فيعلن بذلك الاحدية الإلهية.

الفقرة السابعة: "سكته في ذاك... "

اي كما ان للصانع الجليل سكة كبرى وعلامة عظمى على العالم الاكبر كله، كذلك وضع سكة وحدانيته وعلامتها على كل جزء من اجزاء الكون وعلى كل نوع من انواعه ايضاً.. وكما انه وضع ختم الوحدانية على وجه الانسان ـ وهو العالم الاصغر ـ وعلى جسمه كذلك، وضع الختم نفسه على كل عضو من اعضائه.

نعم! ان ذلك القدير ذا الجلال، وضع آية توحيد جلية على كل شئ، على الكلي والجزئي، فالنجوم والذرات، تشهد عليه، ووضع ختم الوحدانية على كل شئ ليدل عليه.

وحيث ان هذه الحقيقة العظيمة قد اثبتت اثباتاً قاطعاً في (الكلمة الثانية والعشرين) و(الكلمة الثانية والثلاثين) و(المكتوب الثالث والثلاثين)، نحيل البحث الى تلك الكلمات ونختمه هنا.(*)

_____________________

(*) المكتوب العشرون - ص: 300

 

قرئت 18 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد