اثبات التوحيد  الكلمة التاسعة  [ بيده الخير ]

باسمه سبحانه

ايها المستخلف المبارك

(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)

 

بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة

 

اثبات التوحيد  الكلمة التاسعة  [ بيده الخير ]

اي ان الخيرات كلها بيده، الحسنات كلها في سجله، الآلاء كلها في خزينته، لذا من يريد الخير فليسأله منه، ومن يرغب في الاحسان فليتضرع اليه.

نشير الى امارات دليلٍ واسع جداً ولمعاته من ادلة العلم الإلهي التي لاتحصى، اظهاراً لحقيقة هذه الكلمة بجلاء. فنقول:

ان الصانع الجليل الذي يوجد ويتصرف بأفعاله الظاهرة في هذا الكون، له علم محيط بكل شئ، وان ذلك العلم خاصّة لازمة ضرورية لذاته الجليلة، محال انفكاكه عنها، اذ كما لايتصور وجود ذات الشمس بلا ضياء، كذلك الصانع الجليل الذي اوجد هذه الموجودات بانتظام رائع ـ لا يمكن بالوف المرات ـ ان ينفك علمه عنه.

فهذا العلم المحيط بكل شئ ضروري لتلك الذات الجليلة، فهو ضروري ايضاً لكل شئ من حيث التعلق. اي: لايمكن ان يتستر ويتخفى عنه اي شئ كان بأي حال من الاحوال. اذ كما لايمكن ان لاترى الاشياء المبثوثة على سطح الارض الشمس وهي التي تقابلها دون حجاب، كذلك لايمكن بل محال بالوف المرات ان تتستر الاشياء عن نور علم ذلك العليم الجليل سبحانه. وذلك لوجود الحضور، اي: ان كل شئ ضمن دائرة نظره سبحانه، ويقابله، وضمن دائرة شهوده جلّ وعلا، وان علمه نافذ في كل شئ.

فلئن كان شعاع هذه الشمس الجامدة، ونور هذا الانسان العاجز، وشعاع الاشعة السِّينيّة التي لاتملك شعوراً، وامثالها من الاشعة.. اقول: لئن كانت هذه الاشعة وهي حادثة، ناقصة، عارضة، تشاهد أنوارها كلَّ ما يقابلها وتنفذ فيه، فكيف بنور العلم الازلي، الواجب، المحيط، الذاتي.

اذاً.. لابد ان لايتستر عنه شئ قط ولايبقى شئ خارجه قطعاً.

وفي الكون من العلامات والآيات المبثوثة مالايعد ولايحصى كلها تشير الى هذه الحقيقة، نورد منها ما يأتي:

ان جميع الحِكَم المشاهدة في الموجودات تشير الى ذلك العلم المحيط، لان انجاز العمل بحكمة انما يكون بالعلم.

وكذا العناية والتزيين في الموجودات تشيران ايضاً الى ذلك العلم المحيط، لان الذي يعمل باللطف والعناية، لابد أنه يعلم، وانه يعمل بعلم.

وكذا كل موجود من الموجودات المنتظم الموزون بميزان دقيق، وكل هيئة من هيئاتها الموزونة والمقدّرة ايضاً، تشير الى ذلك العلم المحيط، لان اداء العمل بانتظام يكون بالعلم.

وكذا جميع العنايات والتزيينات تشير الى ذلك العلم. لأن الذي يخلق مصنوعاته بمكيال وميزان وتقدير واتقان، لاشك انه يعمل ما يشاء مستنداً الى علم قوي.

وكذا جميع المقادير المنتظمة المشاهدة في الموجودات كلها، والاشكال التي فصّلت على وفق الحكم والمصالح، والهيئات المنتجة، والاوضاع المثمرة التي نظّمت على وفق دساتير القضاء وضوابط القدر، انما تدل على علم محيط.

نعم، تصوير الاشياء على اختلافها تصويراً منتظماً، وتشكيل كل شئ بشكل مخصوص به وملائم لوجوده ولمصالح حياته، انما يكون بعلم محيط، لاغير.

وكذا ارسال الرزق لجميع ذوي الحياة - من حيث لايحتسب - وفي الوقت المناسب، وبشكل ملائم لكل واحد منها، انما يكون بعلم محيط؛ لان الذي يرزق لاريب انه يعلم حال من يحتاج الى الرزق ويعرفه ويعلم بوقت رزقه ويدرك حاجاته، ثم يرزقه على افضل صورة.

وكذا وفاة جميع ذوي الحياة بآجالها المعقودة بقانون من التعيّن - مع تسترها بعنوان الإبهام - تدل على علم محيط بكل شئ، لان اجل كل طائفة من طوائف ذوي الحياة معيّن في زمن محدود بين حدّين، وان كان لايشاهد ظاهراً وقتٌ معين لحلول آجال افرادها. لذا فالحفاظ على نتاج ذلك الشئ وثمرته ونواته بعد حلول اجله يديم وظيفته عقبه، ويحول تلك الثمرات والنوى الى حياة جديدة، انما يدل على ذلك العلم المحيط ايضاً.

وكذا ألطاف الرحمة السابغة على الموجودات كلها، كل بما يليق به، انما تدل على علم محيط ضمن رحمة واسعة، لان الذي يربّي اطفال ذوي الحياة وصغارها باللبن ويغيث النباتات الارضية المحتاجة الى الماء بالغيث، لابد انه يعرف اولئك الصغار ويعلم بحاجاتهم ويرى تلك النباتات ويدرك ضرورة المطر لها، ومن بعد ذلك يرسله اليها.

وهكذا تدل جلواتٌ لاتحد لرحمته الواسعة سبحانه والمكللة بالعناية والحكمة، على علم محيط.

وكذا ما في اتقان الصنعة للاشياء كلها من اهتمام بالغ وتصوير بديع وتزيين فائق يدل على علم محيط.لان انتقاء وضع منتظم حكيم مزيّن بديع من بين ألوف الاوضاع المختلفة المحتملة انما يكون بعلم نافذ، فهذا النوع من الانتقاء في الاشياء كلها يدل على علم محيط.

وكذا السهولة المطلقة في ايجاد الاشياء وابداعها بيسر تام تدل على علم كامل، لان اليسر في عمل ما والسهولة في ايجاد وضعٍ ما، يتناسبان مع مدى العلم والمهارة، اذ كلما زاد العلم سهُل العمل.

فبناء على هذا السر ننظر الى الموجودات فنرى ان كلاً منها معجزة من معجزات الصنعة والابداع، وانها توجد ايجاداً محيراً للالباب، في منتهى اليسر والسهولة، وبلا تكاليف ولاتكلف وفي اقصر وقت وفي أتم صورة معجزة. بمعنى ان هناك علماً لايحد له حدود بحيث يؤدي الى هذا العمل بسهولة مطلقة.

وهكذا فالامارات المذكورة وامثالها من ألوف العلامات الصادقة تدل على ان الرب الجليل الذي يدبّر شؤون الكون ويصرّف اموره، له علم محيط بكل شئ. فهو الذي يحيط علمه بجميع شؤون الشئ ويأتي عمله فيه وفق ذاك.

وحيث ان رب العالمين له علم كهذا فلابد انه يرى الانسان ايضاً واعمال الانسان كذلك ويعلم مايليق به وما يستحقه فيعامله بمقتضى حكمته ورحمته.

فيا ايها الانسان! عُد الى رشدك، وتدبّر في عظمة من يعلم بحالك ويراقبك. اعلم ذلك وانتبه!.

واذا قيل:

ان العلم وحده لايكفي، فالارادة ضرورية ايضاً، اذ إن لم تكن الارادة موجودة فلايكفي العلم وحده!.

الجـواب: الموجودات كلها تدل على علم محيط وتشهد له، كذلك تدل على الارادة المطلقة لذلك العليم بكل شئ وذلك؛

ان اعطاء تشخص في غاية الانتظام لكل شئ، ولاسيما لكل ذي حياة، باحتمال معين من بين احتمالات كثيرة جداً ومختلطة، بطريق منتج من بين طرق كثيرة جداً وعقيمة، وهو الذي يتردد ضمن امكانات واحتمالات كثيرة، انما يدل على ارادة كلية بجهات غير محدودة. لان اعطاء شكل موزون وتشخص منتظم، المحسوب حسابه بميزان في منتهى الدقة والحساسية، وبمكيال دقيق للغاية، مع انتظام في غاية الدقة والرقة، من بين إمكانات واحتمالات غير محدودة تحيط بوجود كل شئ، وتحفّه طرق عقيمة غير مثمرة لاتحد وفي خضم عناصر جامدة مختلطة تسيل سيلاً دون ميزان.. انما يدل بالبداهة والضرورة بل بالمشاهدة على انه أثر لإرادة كلية. لان انتخاب وضع

معين من بين اوضاع غير محدودة، انما يكون بتخصيص وبترجيح، وبقصد وبارادة، ويخصص بطلب وقصد.

فلاشك ان التخصيص يقتضي مخصِّصاً، والترجيح يستلزم مرجِّحاً، وما المخصِّص والمرجِّح الاّ الارادة.

فمثلاً:

ان ايجاد جسم الانسان الشبيه بماكنة مركبة من مئات الاجهزة المتباينة والآلات المختلفة من نطفة، وايجاد الطير الذي يملك مئات الجوارح المختلفة من بيضة بسيطة، وايجاد الشجرة التي لها مئات الفروع والاعضاء المتنوعة من بذرة صغيرة.. هذا الايجاد لاريب انه يدل على القدرة والعلم، كما يشهد شهادة قاطعة وضرورية للارادة الكلية لصانعها الجليل. حيث انه سبحانه بتلك الارادة يخصص كل ما يتطلبه ذلك الشئ، ويعطي شكلاً خاصاً لكل جزء من اجزاء ذلك الشئ ولكل عضو ولكل قسم منه فيلبسه وضعاً معيناً.

حاصل الكلام:

كما ان تشابه الاعضاء المهمة في الاشياء والاحياء - مثلاً - من حيث الاساس والنتائج وتوافقها، واظهارها سكة واحدة - وعلامة واحدة من علامات الوحدة - يدل دلالة قاطعة على ان صانع جميع الحيوانات واحد أحد. كذلك التشخصات المختلفة للحيوانات والتمييز الحكيم والتعيين الدقيق في سيماها - مع اختلافاتها وتخالفها - تدل دلالة واضحة على ان صانعها الواحد فاعل مختار ومريد، يفعل ما يشاء، فما شاء فعل وما لم يشأ لايفعل. فهو يعمل بقصد وارادة.

فهناك اذن دلالات وشهادات على العلم الإلهي والارادة الربانية بعدد الموجودات بل بعدد شؤونها، لذا فان نفي قسم من الفلاسفة للارادة الإلهية، وانكار قسم من اهل البدع للقدر الإلهي، وادعاء قسم من اهل الضلالة عدم اطلاعه سبحانه على الجزئيات، واسناد الطبيعيين لقسم من الموجودات الى الطبيعة والاسباب، كذب مضاعف وافتراء شنيع ترفضه الموجودات بعددها، بل ضلالة وبلاهة اضعاف اضعاف عدد الموجودات وشؤونها.

لان الذي يكذّب شهادات صادقة لاتحد، يفترى كذباً غير محدود.

ومن هنا يمكنك ان تقيس كم هو عِظم الخطأ، وكم هو عِظم البُعد عن الحقيقة وكم هو مناف للصواب واجحاف بالحق، قول البعض عن قصد: "امر طبيعي " بدلاً من قوله: "ان شاء الله.. ان شاء الله " في الامور التي لاتظهر للوجود الاّ بمشيئته سبحانه!.(*)

__________________

(*) المكتوب العشرون - ص: 313

 

قرئت 19 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد