ارقى وظائف القوة الذائقة
﴿وكلوا واشربُوا وَلا تُسرِفُوا﴾(الاعراف:31)
(هذه الآية الكريمة تلقن درساً في غاية الاهمية وترشد
إرشاداً حكيماً بليغاً بصيغة الأمر الى الاقتصاد، ونهي
صريح عن الاسراف. ومن نكاتها).
ان القوة الذائقة تؤدي دور الحارس. نعم، هي كذلك عند الغافلين الذين لم يَسموا بعدُ روحياً والذين لم يتقدموا في مضمار الشكر والعروج في مدارجه، نعم إنه لا ينبغي اللجوء الى الاسراف – كصرف عشرة أضعاف الثمن، لأجل تلذذ تلك الحاسة الحارسة. ولكن القوة الذائقة لدى الشاكرين حقاً ولدى اهل الحقيقة واهل القلوب واولى الابصار بمثابة راصدة وناظرة مفتشة لمطابخ الرحمة الإلهية (كما وضح ذلك في المقارنة المعقودة في الكلمة السادسة). وان ما يتم في تلك القوة الذائقة من عملية تقدير قيمة النعم الاَلهية ومن التعرف عليها بأنواعها المختلفة بما فيها من موازين دقيقة حساسة عديدة بعدد الاطعمة، انما هو لإبلاغ الجسد والمعدة، بما ينم عن شكر معنوي.
فلا تقتصر وظيفة القوة الذائقة على رعاية الجسد رعاية مادية وحدها، بل هي ايضاً أرقى حكماً من وظيفة المعدة وأرفع منزلة منها، لما لها من رعاية للقلب والروح والعقل ومن عناية لكل منها، علماً أنها تستطيع ان تمضي في سبيل الحصول على لذتها – بشرط عدم الاسراف – انجازاً لمهمة الشكر الخالص المقدرة لها، وبنية التعرف والاطلاع على انواع النعم الإلهية بتذوقها والشعور بها بشرط مشروعيتها وعدم كونها وسيلة للتذلل والاستجداء، أي اننا نستطيع ان نستعمل ذلك اللسان الحامل للقوة الذائقة في الشكر لاجل التفضيل بين الاطعمة اللذيذة.
واليكم هذه الحادثة اشارة الى هذه الحقيقة، وهي كرامة من كرامات الشيخ الكيلاني (قُدس سره): كان لعجوز رقيقة لطيفة ابنٌ وحيد يتربى على يد الشيخ، دخلت تلك العجوز الموقرة ذات يوم على ابنها ورأت انه يأكل من كسرة خبز يابس أسمر مزاولاً رياضة روحية حتى ضعف ونحل جسمه. أثارت هذه الحالة شفقة والدته الرؤوم ورقت لحالة فذهبت لتشتكيه الى الشيخ الكيلاني واذا بها ترى الشيخ يأكل دجاجاً مشوياً. ولشدة رقتها ولطافتها قالت: ايها الشيخ ان ابني يكاد يموت جوعاً وها انت ذا تأكل الدجاج؟! فخاطب الشيخ الدجاج قائلاً: (قم باذن الله) فوثب ذلك الدجاج المطبوخ الى خارج الوعاء بعد ان اكتمل دجاجاً حياً بالتئام عظامه. لقد نقل هذا الخبر بالتواتر المعنوي ثقاتٍ كثيرون(1) اظهاراً لكرامة واحدة من صاحب الكرامات المشهورة في العالم، الشيخ الكيلاني قُدس سرّه. ومما قاله الشيخ لتلك العجوز: متى ما بلغ إبنك هذه الدرجة.. فليأكل الدجاج هو الآخر.
فمغزى هذا الامر الصادر من الشيخ الكيلاني هو: متى حَكمت روحُ ابنك جَسَدَهُ وهيمن قلبُه على نفسه، وسادَ عقله معدته، والتمس اللذةَ لاجل الشكر.. عندئذ يمكنه أن يتناول ما لذّ وطاب من الاطعمة. (*)
_______________________
(1) وقال اليافعي رضي الله عنه: صح بالسند المتصل الى الشيخ القطب عبدالقادر الجيلاني رحمة الله تعالى: أن أم شاب عنده دخلت عليه وهو يأكل في دجاجة، فأنكرت أكله الدجاجة وإطعامه ابنها أرذل الطعام، فقال لها: اذا صار ابنك بحيث يقول لمثل هذه الدجاجة قومي بأذن الله فقامت ولها اجنحة وطارت بها حق له ان يأكل الدجاج. (الفتاوى الحديثية لابن
(*) كليات رسائل النور- اللمعة التاسعة عشر..ص:213