استعداد الاسلام للرقي المادي

 

السؤال :

كيف تثبت ان الاسلام مستعد للرقي المادي

الجواب :

ان الاسباب القوية التي تدفع الاسلام الى الرقي تبين أن الاسلام سيسود المستقبل مادياً ايضاً.

لأن في قلب الشخصية المعنوية للعالم الاسلامي قد اجتمعت وامتزجت خمس قوىً لا تُقهر، وهي في منتهى الرسوخ والمتانة(1):

القوة الاولى:

"الحقيقة الاسلامية" التي هي استاذ جميع الكمالات والمثل، الجاعلة من ثلاثمائة وخمسين مليون مسلم كنفسٍ واحدة والمجهّزة بالمدنية الحقيقية والعلوم الصحيحة، ولها من القوة ما لا يمكن ان تهزمها قوة مهما كانت.

القوة الثانية:

"الحاجة الملحة" التي هي الاستاذ الحقيقي للمدنية والصناعات والمجهّزة بالوسائل والمبادئ الكاملة.. وكذا "الفقر" الذي قصم ظهرنا. فالحاجة والفقر قوتان لاتسكتان ولا تُقهران.

القوة الثالثة:

"الحرية الشرعية" التي ترشد البشرية الى سبل التسابق والمنافسة الحقّة نحو المعالي والمقاصد السامية، والتي تمزق انواع الاستبداد وتشتتها، والتي تهيّج المشاعر الرفيعة لدى الانسان، تلك المشاعر المجهّزة بانماط من الاحاسيس كالمنافسة والغبطة والتيقظ التام والميل الى التجدد والنزوع الى التحضر. فهذه القوة الثالثة: "الحرية الشرعية" تعني التحلي باسمى ما يليق بالانسانية من درجات الكمال والتشوق والتطلع اليها.

القوة الرابعة:

"الشهامة الايمانية" المجهّزة بالشفقة والرأفة. أي:ان لايرضى الذلّ لنفسه امام الظالمين، ولا يلحقه بالمظلومين. وبعبارة اخرى: عدم مداهنة المستبدّين وعدم التحكم بالمساكين أو التكبّر عليهم، وهذا أساس مهم من اسس الحرية الشرعية.

القوة الخامسة:

"العزة الاسلامية" التي تعلن اعلاء كلمة الله. وفي زماننا هذا يتوقف اعلاء كلمة الله على التقدم المادي والدخول في مضمار المدنية الحقيقية. ولاريب ان شخصية العالم الاسلامي المعنوية سوف تدرك وتحقق في المستقبل تحقيقاً تاماً ما يتطلـبه الايـمان من الحفـاظ على عزة الاسلام..

وكما ان رقي الاسلام وتقدمه في الماضي كان بالقضاء على تعصب العدو وتمزيق عناده ودفع اعتداءاته.. وقد تم ذلك بقوة السلاح والسيف. فسوف تُغلب الاعداء ويُشتت شملهم بالسيوف المعنوية - بدلاً من المادية - للمدنية الحقيقية والرقي المادي والحق والحقيقة.

اعلموا أيها الاخوان!

ان قصدنا من المدنية هو محاسنها وجوانبها النافعة للبشرية، وليس ذنوبها

وسيئاتها، كما ظن الحمقى من الناس أن تلك السيئات محاسن فقلّدوها وخرّبوا الديار، فقدموا الدين رشوة للحصول على الدنيا فما حصلوا عليها ولا حصلوا على شئ.

انه بطغيان ذنوب المدنية على محاسنها، ورجحان كفة سيئاتها على حسناتها، تلقت البشرية صفعتين قويتين بحربين عالميتين، فأتتا على تلك المدنية الآثمة، وقاءت دماءً لطخت وجه الارض برمتها. وسوف تتغلب باذن الله محاسن المدنية بفضل قوة الاسلام التي ستسود في المستقبل، وتطهّر وجه الارض من الأدناس وتحقق ايضاً سلاماً عاماً للبشرية قاطبة.

نعم لما كانت مدنية اوروبا لم تتأسس على الفضيلة والهدى بل على الهوس والهوى، وعلى الحسد والتحكم، تغلبت سيئات هـذه المدنـيـة على حسناتها الى الان. واصبحت كشجرة منخورة بديدان المنظمات الثورية الارهابية ، وهذا دليل قوي ومؤشر على قرب انهيارها وسبب مهم لحاجة العالم الى مدنية آسيا "الاسلامية" التي ستكون لها الغلبة عن قريب.

فاذا كان امام اهل الايمان والاسلام امثال هذه الاسباب القوية والوسائل القويمة للرقي المادي والمعنوي، وطريقٌ سويٌ ممهد كسكة الحديد للوصول الى السعادة في المستقبل، فكيف تيأسون، وتثبطون روح العالم الاسلامي المعنوية وتظنون ظن السوء وفي يأس وقنوط: أن الدنيا دار ترقٍ وتقدم للاجانب وللجميع بينما اصبحت دار تدنٍ وتأخـّر للمسلمـين المساكـين وحدهم. انكم بهـذا ترتكبون خطأ شنيعـاً.

اذ ما دام الميل نحو الكمال قانوناً فطرياً في الكون وقد اُدرج في فطرة البشرية، فان الحق والحقيقة سيظهران في المستقبل على يد العالم الاسلامي ان شاء الله سعادةً دنيوية ايضاً كفّارة لما اقترفته البشرية من آثام، مالم تقم قيامة مفاجئة بما ارتكبت من مفاسد ومظالم.

فانظروا الى الزمن، انه لايسير على خط مستقيم حتى يتباعد المبدأ والمنتهى، بل يدور ضمن دائرة كدوران كرتنا الارضية. فتارة يرينا الصيف والربيع في حال الترقي، وتارة يرينا الشتاء والخريف في حال التدني. وكما ان الشتاء يعقبه الربيع والليل

يخلفه النهار، فسيكون للبشرية ربيع ونهار ان شاء الله، ولكم ان تنتظروا من الرحمة الالهية شروق شمس حقيقة الاسلام، فتروا المدنية الحقيقية في ظل سلام عام شامل.

لقد قلنا في بداية هذا الدرس اننا سنقيم برهاناً ونصف برهان على دعوانا. وقد انتهى الآن البرهان مجملاً.

وجاء دور نصف البرهان وهو الآتي:

لقد ثبت بالبحث والتحري الدقيق والاستقراء والتجارب العديدة للعلوم أن:

الخير والحسن والجمال والاتقان والكمال هو السائد المطلق في نظام الكون وهو المقصود لذاته، أي هو المقاصد الحقيقية للصانع الجليل. بدليل ان كل علمٍ من العلوم المتعلّقة بالكون يطلعنا بقواعده الكلية على ان في كل نوع وفي كل طائفة انتظاماً وابداعاً بحيث لايمكن للعقل أن يتصور أبدع واكملَ منه.

فمثل:علم التشريح الذي يخص الطب، علم المنظومة الشمسية الذي يخص الفلك وبقية العلوم التي تخص النباتات والحيوانات، كل منها تفيدنا بقواعدها الكلية وبحوثها المتعددة النظام المتقن للصانع الجليل في ذلك النوع وقدرته المبدعة وحكمته التامة فتبيّن جميعها حقيقة الآية الكريمة {الذي احسَن كلَّ شئٍ خَلقَه} (السجدة: 7)

كما ان الاستقراء التام والتجارب الشاملة يثبت أن:

الشر والقبح والباطل والسيئات جزئي وتَبَعي وثانوي في خلقة الكون.

فالقبح مثلاً في الكون والمخلوقات ليس هدفاً لذاته وانما هو وحدة قياسية، لتنقلب حقيقةٌ واحدة للجمال الى حقائق كثيرة. والشر كذلك، بل حتى الشيطان نفسه انما خلق وسلّط على البشرية ليكون وسيلة لترقيات البشر غير المحدودة نحو الكمال التي لا يُـنال إلاّ بالتسـابق والمجـاهـدة.

وامثال هذه الشرور والقبائح الجزئية خُلقت في الكون لتكون وسيلة لإظهار انواع الخير والجمال الكليين. وهكذا يثبت بالاستقراء التام أن المقصد الحقيقي في الكون والغاية الاساسية في الخلق انما هو: الخير والحسن والكمال، لذا فالانسان الذي لوّث وجه الارض بكفره الظالم وعصيانه الله لايمكن ان يفلت من العقاب، ويذهب الى العدم من دون ان يحق عليه المقصود الحقيقي في الكون. بل سيدخل سجن جهنم!

كما ثبت بالاستقراء التام وتحريات العلوم وابحاثها ان الانسان هو اكرم المخلوقات واشرفها. لأنه يستطيع أن يكشف بعقله عن مراتب الاسباب الظاهرية في خلق الكائنات ونتائجها، ويعرف العلاقات بين العلل والاسباب المتسلسلة، ويستطيع ان يقلّد بمهارته الجزئية الصنائع الالهية والايجاد الرباني المنتظم الحكيم، ويستطيع أن يدرك بعلمه الجزئي وبمهارته الجزئية اتقان الافعال الالهية، وذلك بجعل ما لديه من جزء اختياري ميزاناً جزئياً ومقياساً مصغّراً لدرك تلك الافعال الالهية الكلية والصفات الجليلة المطلقة.

كل ذلك يثبت ان الانسان اشرف مخلوق واكرمه.

وثبت ايضاً بشهادة الحقائق التي قدّمها الاسلام للبشرية والتي تخص البشر والكائنات: ان المسلمين هم افضل البشر واشرفهم وهم اهل الحق والحقيقة، كما ثبت بشهادة التاريخ والوقائع والاستقراء التام: ان اشرف اهل الحق المشرَّفين من بين البشر المكرَّمين وأفضلَهم هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي يشهد له ألفٌ من معجزاته وسمو اخلاقه ومكارمه وحقائق الاسلام والقرآن.

ولما كان نصف البرهان هذا قد بين هذه الحقائق الثلاث أفيمكن أن يقدح نوعُ البشر بشقاوته شهادةَ هذه العلوم جميعها، وينقض هذا الاستقراء التام، ويتمرّد في وجه المشيئة الالهية والحكمة الازلية؛ فيستمر في قساوته الظالمة وكفره المتمرد ودماره الرهيب ؟ أفيمكن ان تستمر هذه الحالة في عداء الاسلام هكذا؟

انني اقسم بما آتاني الله من قوة بل لو كان لي مالايعد ولايحصى من الألسنة لأقسمت بها جميعاً، بالذي خلق العالم بهذا النظام الاكمل، وخلق الكون في منتهى الحكمة والانتظام من الذرات الى السيارات السابحات في اجواز الفضاء، ومن جناح البعوضة الى قناديل النجوم المتلألئة في السموات، ذلكم الحكيم ذو الجلال والصانع ذو الجمال، أقسم به سبحانه بألسنة لا تحد انه لا يمكن ان يخرج البشر على سنة الله الجارية في الكون ويخالف بقية اخوانه من طوائف المخلوقات بشروره الكلية ويقضي بغلبة الشر على الخير فيهضم تلك المظالم الزقومية على مدى ألوف السنين! فهذا لا يمكن قطعاً!

نعم، انه لا يمكن ذلك إلاّ بافتراضٍ محالِ هو أن الانسان ليس خليفة الله في الارض، الحامل للأمانة الكبرى والاخ الاكبر الاكرم لسائر انواع المخلوقات، انما هو ادنى مخلوق واردأه وارذله واضرّه وأحقره، دخل الكون متلصصاً ليفسده! فهذا الفرض المحال باطل من اساسه لا يمكن قبوله باية جهة كانت.

فلأجل هذه الحقيقة يمكن أن نستنتج من نصف برهاننا هذا:

كما أن وجود الجنة والنار ضروري في الآخرة فان الغلبة المطلقة ستكون للخير وللدين الحق في المستقبل، حتى يكون الخير والفضيلة غالبين في البشرية كما هو الامر في سائر الانواع الاخرى، وحتى يتساوى الانسان مع سائر اخوانه من الكائنات، وحتى يحق ان يقال: انه قد تحقق وتقرر سرّ الحكمة الازلية في النوع البشري أيضاً.

وحاصل الكلام:

ما دام البشر - طبقاً للحقائق المذكورة القاطعة - افضل نتيجة منتَخبة من الكائنات، وأنه أكرم مخلوق لدى الخالق الكريم، وان الحياة الباقية تقتضي وجود الجنة وجهنم بالبداهة، فتستلزم المظالم التي ارتكبتها البشرية حتى الآن وجود جهنم، كما تستلزم ما في استعداداته الكمالية المغروزة في فطرته وحقائقه الايمانية التي تهم الكائنات بأسرها وجود الجنة بالبداهة، فلابد، ولامحالة ان البشر لن يهضموا ولن يغفروا الجرائم التي ارتكبت خلال الحربين العظيمتين والتي جرت الويلات والمصائب على العالم باجمعه واستقاءت زقوم شرورها التي استعصت على الهضم فلطّخت وجه الارض، وتركت البشرية تعاني البؤس والشقاء وهدمت صرح المدنية الذي بنته البشرية طوال الف عام. فما لم تقم قيامة مفاجئة على البشرية فاننا نرجو من رحمة الرحمن الرحيم، ان تكون الحقائق القرآنية وسيلة لانقاذ البشرية من السقوط الى أسفل سافلين، وتطهّر وجه الارض من الادناس والادران وتقيم سلاماً عاماً شاملاً.

والعبر.وأملنا بالله عظيم أن يتخلى العرب عن اليأس ويَمدّوا يدَ العون والوفاق الصادق الى الترك الذين هم جيش الاسلام الباسل فيرفعوا معاً راية القرآن عالية خفّاقة في ارجاء العالم،ان شاء الله.(*)

_________________________________

(1) نعم نفهم من استاذية القرآن واشارات درسه: ان القرآن بذكره معجزات الانبياء، انما يدل البشرية على ان نظائر تلك المعجزات سوف تتحقق في المستقبل بالترقي، ويحث الانسان على ذلك وكأنه يقول له: هيا اعمل وإسعَ لتنجز امثال هذه المعجزات، فاقطع مثلاً مسافة شهرين في يوم واحد كما قطعها سليمان عليه السلام، واعمل على مداواة اشد الامراض المستعصية كما داواها عيسى عليه السلام، واستخرج الماء الباعث على الحياة من الصخر وانقذ البشرية من العطش كما فعله موسى عليه السلام بعصاه. وابحث عن المواد التي تقيك شر الحرق بالنار، وألبسها كما لبسها ابراهيم عليه السلام. والتقط أبعد الاصوات واسمعها وشاهد الصور من اقصى المشرق والمغرب كما فعل ذلك بعض الانبياء.وألِن الحديد كالعجين كما فعله داود عليه السلام، واجعل الحديد كالشمع في يدك ليكون مداراً لجميع الصناعات البشرية، كما تستفيدون فوائد جمة من الساعة والسفينة اللتين هما من معجزات سيدنا يوسف وسيدنا نوح عليهما السلام. فاعملوا على محاكاتهما وتقليدهما. وهكذا قياساً على هذا نجد أن القرآن الكريم يسوق البشرية الى الرقي المادي والمعنوي، ويلقي علينا الدروس ويثبت انه أستاذ الجميع. المؤلف.

(*) صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 499

 

قرئت 3 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد