استعداد الاسلام للرقي المعنوي

 

قطرة نورية من كليات رسائل النورسي

فاعلموا!ان التاريخ الذي يسجل الوقائع الحقيقية، اصدق شاهد على حقيقة الأحداث؛ فها هو التاريخ يرينا أن القائد الياباني الذي هزم الروس يدلي بالشهادة الاتية في صدد عظمة الاسلام وحقانيته: "انه بنسبة قوة الحقائق الاسلامية وبنسبة التزام المسلمين تلك الحقائق، يزدادون رقياً وتقدماً، هكذا يرينا التاريخ. ويرينا إيضاً انه بقدر ضعف تمسكهم بتلك الحقائق يصابون بالتوحش والتخلف والاضمحلال والوقوع في ألوان من الهرج والمرج والاضطرابات. ويُغلَبون على أمرهم". أما سائر الاديان الاخرى فالامر فيها على عكس الاسلام، أي: بقدر ضعف تمسّك اتباعها وضعف تعصبهم وصلابتهم في دينهم يزدادون رقياً وتقدماً، وعلى قدر تعصبهم وتمسكهم بدينهم يتعرّضون للانحطاط والاضطرابات.

هذا هو حكم التاريخ.. وهكذا مرّ الزمانُ الى الآن.

وما ارانا التاريخ قط منذ خير القرون والعصر السعيد الى الآن أن مسلماً قد ترك دينه مرجّحاً عليه - بالمحاكمة العقلية والدليل اليقيني - ديناً آخر، على حين ان كثيراً من اتباع الاديان الاخرى - حتى المتعصبين منهم، كالروس القدامى والانكليز - قد رجّحوا بالمحاكمة والدليل العقلي دين الاسلام على أديانهم فدخلوا في الاسلام.ولاعبرة هنا بتقليد العوام الذي لايستند الى دليل، كما لاعبرة بالمروق عن الدين والخروج على حقائقه، فهذه مسألة اخرى. علماً أن التاريخ يفيدنا بأن عدد من يدينون بالاسلام - بالمحاكمة العقلية - جماعات وافواجاً يزداد يوماً بعد يوم(1).

ولو اننا أظهرنا بأفعالنا وسلوكنا مكارم اخلاق الاسلام وكمال حقائق الايمان، لدخل اتباع الاديان الاخرى في الاسلام جماعات وأفواجاً. بل لربما رضخت دول العالم وقاراته للاسلام.

ان البشرية التي اخذت تصحو وتتيقّظ بنتائج العلوم والفنون الحديثة، ادركت كنه الانسانية وماهيتها، وتيقّنت انه لا يمكنها ان تعيش هملاً بغير دين، بل حتى اشد الناس إلحاداً وتنكراً للدين مضطر الى أن يلجأ الى الدين في آخر المطاف؛ لأن:

"نقطة استناد" البشر عند مهاجمة المصائب والاعداء من الخارج والداخل، مع عجزه وقلّة حيلته، وكذا "نقطة استمداده" لآماله غير المحدودة الممتدة الى الأبد مع فقره وفاقته، ليس الاّ "معرفة الصانع" والايمان به والتصديق بالآخرة، فلا سبيل للبشرية المتيقّظة الى الخلاص من غفوتها سوى الاقرار بكل ذلك.

ومالم يوجد في صَدَفة القلب جوهر الدين الحق، فسوف تقوم قيامات مادية ومعنوية على رأس البشر، وسيكون اشقى الحيوانات وأذلّها.

خلاصة الكلام:

لقد تيقّظ الانسان في عصرنا هذا، بفضل العلوم والفنون ونُذُر الحروب والاحداث المذهلة، وشعر بقيمة جوهر الانسانية واستعدادها الجامع، وادرك ان الانسان باستعداده الاجتماعي العجيب لم يُخلق لقضاء هذه الحياة المتقلّبة القصيرة، بل خُلق للأبد والخلود، بدليل آماله الممتدة الى الابد. وان كل انسان بدأ يشعر - حسب استعداده -أن هذه الدنيا الفانية الضيقة لاتسع لتلك الآمال والرغبات غير المحدودة، حتى اذا قيل لقوّة الخيال التي تخدم الانسانية:

"لك ان تعمّري مليون سنة مع سلطنة الدنيا، نظير قبولك موتاً ابدياً لاحياة بعده اطلاقاً." فلابد ان خيال ذلك الانسان المتيقّظ الذي لم يفقد انسانيته سيتأوه كَمَداً وحزناً - بدلاً من أن يفرح ويستبشر- لفقده السعادة الابدية.

وهذا هو السر في ظهور ميل شديد الى التحري عن الدين الحق في اعماق كل انسان، فهو يبحث قبل كل شئ عن حقيقة الدين الحق لتنقذه من الموت الابدي. ووضع العالم الحاضر خير شاهد على هذه الحقيقة.

لقد بدأت قارات العالم ودوله بعد مرور خمسة واربعين عاماً وبظهور الإلحاد تدرك ادراك كل فرد هذه الحاجة البشرية الشديدة.

ثم ان اوائل اكثر الايات القرآنية وخواتمها، تحيل الانسان الى العقل قائلة: راجع عقلك وفكرك ايها الانسان وشاورهما، حتى يتبين لك صدق هذه الحقيقة. فانظروا مثلاً الى قوله تعالى (فاعلموا.. فاعلم.. أفلا يعقلون.. أفلم ينظروا.. أفلا يتذكرون.. أفلا يتدبرون.. فاعتبروا يا اولى الأبصار..)وامثالها من الايات التي تخاطب العقل البشري. فهي تسأل: لِمَ تتركون العلم وتختارون طريق الجهل؟ لِمَ تعصُبون عيونَكم وتتعامَوْن عن رؤية الحق؟ ما الذي حملكم على الجنون وانتم عقلاء؟ أي شئ منعكم من التفكر والتدبّر في احداث الحياة، فلا تعتبرون ولاتهتدون الى الطريق المستقيم؟ لماذا لا تتأملون ولا تحكّمون عقولكم لئلا تضلوا؟.

ثم تقول ايها الناس انتبهوا واعتبروا! انقذوا انفسكم من بلايا معنوية تنزل بكم باتعاظكم من القرون الخوالي.

يا اخواني الذين يضمهم هذا الجامع الاموي، ويااخواني في جامع العالم الاسلامي!اعتبروا انتم ايضاً! وقيّموا الامور في ضوء الاحداث الجسام التي مرت خلال السنوات الخمس والاربعين الماضية. كونوا راشدين يامن يعدّون انفسهم من أولي الفكر والعلم.

نحصل مما سبق:

نحن معاشر المسلمين خدام القرآن نتّبع البرهان ونقبل بعقلنا وفكرنا وقلبنا حقائقَ الايمان، لسنا كمن ترك التقلد بالبرهان تقليداً للرهبان كما هو دأب اتباع سائر الاديان!

وعلى هذا فان المستقبل الذي لاحكمَ فيه الاّ للعقل والعلم، سوف يسوده حكم القرآن الذي تستند أحكامُه الى العقل والمنطق والبرهان.

وها قد اخذت الحجب التي كانت تكسف شمس الاسلام تنزاح وتنقشع، وأخذت تلك الموانع بالانكماش والانسحاب. ولقد بدأت تباشير ذلك الفجر منذ خمس واربعين سنة، وها قد بزغ فجرها الصادق سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة والف

أو هو على وشك البزوغ، وحتى ان كان هذا الفجر فجراً كاذباً فسيطلع الفجر الصادق بعد ثلاثين أو أربعين عاماً ان شاء الله.

نعم فلقد حالت ثمانية موانع دون استيلاء حقائق الاسلام على الزمان الماضي استيلاءً تاماً وهي:

المانع الاول والثاني والثالث:

جهل الاجانب

وتأخرهم عن عصرهم (أي بُعدهم عن الحضارة)

وتعصبهم لدينهم

فهذه الموانع الثلاثة بدأت تزول بفضل التقدم العلمي ومحاسن المدنية.

المانع الرابع والخامس:

تحكّم القسيسين وسيطرة الزعماء الروحانيين على افكار الناس واذهانهم.

وتقليد الاجانب لاولئك القسيسين تقليداً أعمى.

فهذان المانعان ايضاً يأخذان بالزوال بعد انتشار حرية الفكر وميل النوع البشري الى البحث عن الحقائق.

المانع السادس والسابع:

تفشي روح الاستبداد فينا.

وانتشار الاخلاق الذميمة النابعة من مجافاة الشريعة ومخالفتها.

فان زوال قوة إستبداد الفرد الآن يشير الى زوال استبداد الجماعة والمنظمات الرهيبة بعد ثلاثين أو اربعين سنة. ثم ان فوران الحمية الاسلامية والوقوف على النتائج الوخيمة للاخلاق الذميمة كفيلان برفع هذين المانعين بل هما على وشك ان يُرفعا، وسيزولان زوالاً تاماً إن شاء الله.

المانع الثامن:

توهم وجود نوع من التناقض بين مسائل من العلم الحديث والمعنى الظاهري لحقائق الاسلام؛ هذا التوهم سبّب الى حدٍ ما وقف استيلاء الحقائق الاسلامية في

الماضي.فمثلاً: ان "الثور والحوت" اللذين هما عبارة عن مَلَكين روحانيين مأمورين بالاشراف على الارض بأمر الله. تخيّلهما البعضُ انهما حيوانان حقيقيان مجسّمان، أي: ثور ضخم وحوت جسيم، فوقف اهلُ العلوم الحديثة موقف المعارض للاسلام لعـدم اطـلاعهم على حقيقـة التشبيه والمجاز.

وهناك مئات من الامثلة كهذا، إذ بعد الاطلاع على الحقيقة لا يجد أعتى الفلاسفة مفراً من الاستسلام والانصياع. حتى ان رسالة "المعجزات القرآنية" قد اشارت الى كل آية من الآيات التي تعرّضَ لها أهل العلم الحديث، واظهرت ان في كلٍ منها لمعة رائعة من لمعات اعجاز القرآن، وبيّنت ما ظنّه اهلُ العلم مدارَ نقدٍ في جُمَل القرآن وكلماته: أن في كل منها من الحقائق السامية الرفيعة ما لا تطاوله يد العلم، وألجأ الفلاسفة العنيدين الى الاستسلام والرضوخ.وهذه الرسائل في متناول الجميع، وفي امكان كل واحد الاطلاع عليها بسهولة، وعليه ان يطلع عليها، ليرى كيف انهار هذا المانع فعلاً، بعدما قيل منذ خمس واربعين سنةً.

نعم، ان هناك مؤلفات قيمة لعلماء الاسلام في هذا المجال، وكل الامارات تدل على ان هذا المانع الثامن سيضمحل تماماً.

واذا لم يحدث ذلك الآن، فانه بعد ثلاثين أو اربعين عاماً سوف يتجهّز العلم، والمعرفة الحقيقية، ومحاسن المدنية، بوسائل واعتدة كاملة فتتغلب - هذه القوى الثلاث - على الموانع الثمانية المذكورة وتقضي عليها. وذلك ببعثها روح التحري عن الحقائق، والانصاف والمحبة الانسانية وارسالها الى جبهات محاربة تلك الاعـداء الثمانـية.

وقد بدأت تهزمها فعلاً، وسوف تقضي عليها قضاءً تاماً بعد نصف قرن ان شاء الله.

نعم،"الفضل ما شهدت به الاعداء".

واليكم مثالين فقط من بين مئات الامثلة:

المثال الأول: ان مستر كارلايل احد مشاهير فلاسفة القرن التاسع عشر واشهر فيلسوف من القارة الامريكية يلفت انظار الفلاسفة وعلماء النصرانـيـة بقـولـه:

لقد جاء الاسلام على تلك الملل الكاذبة والنحل الباطلة فابتلعها وحق له ان يبتلعها، لأنه حقيقة خارجة من قلب الطبيعة، وما كاد يظهر الاسلام حتى احترقت فيه وثنيات العرب وجدليات النصرانية وكل ما لم يكن بحق فانها حطب ميت أكلته نار الاسلام فذهب، والنار لم تذهب".(2)

ويزيد مستر كارلايل فيقول بحق الرسول صلى الله عليه وسلم:

"هو الرجل العظيم الذي علّمه الله العلم والحكمة فوجب علينا ان نصغي اليه قبل كل شئ".(3)

ويقول ايضاً:

"ان كنت في ريب من حقائق الاسلام فالأولى بك أن ترتاب في البديهيات والضروريات القطعية، لأن الاسلام من أبده الحقائق واشدها ضرورة".

وهكذا فقد سجّل هذا الفيلسوف الشهير هذه الحقائق حول الاسلام في اماكن متفرقة من مؤلفه.

المثال الثاني: هو الامير بسمارك(4) الذي يعتبر من أشهر رجال الفكر في تاريخ اوروبا الحديث. يقول هذا الفيلسوف:

"لقد درست الكتب السماوية بإمعان، فلم اجد فيها الحكمة الحقيقية التي تكفل سعادة البشرية، وذلك للتحريف الذي حصل فيها. ولكني وجدت قرآن محمد صلى الله عليه وسلم يعلو على سائر الكتب. وقد وجدت في كل كلمة منه حكمة. وليس هناك كتاب يحقق سعادة البشرية مثله. ولا يمكن أن يكون كتابٌ كهذا من كلام البشر. فالذين يدّعون ان هذه الاقوال اقوال محمد صلى الله عليه وسلم يكابرون الحق وينكرون الضرورات العلمية، أي أن كون القرآن كلام الله امرٌ بديهي".

وهكذا تنتج حقول الذكاء في امريكا واوروبا محاصيل رائعة من امثال مستر كارلايل وبسمارك من جهابذة المحققين.

وفي ضوء هذه الحقيقة اقول وبكل اطمئنان واقتناع:

ان اوروبا وامريكا حَبَالى بالاسلام، وستلدان يوماً ما دولة اسلامية، كما حَبِلت الدولة العثمانية باوروبا وولدت دولة اوروبية.

ايها الاخوة في الجامع الاموي، ويا اخواني في الجامع الاسلامي بعد نصف قرن! أفلا تنتج المقدمات التي أسلفنا ذكرها حتى الآن:

أن الاسلام وحده سيكون حاكماً على قارات المستقبل حكماً حقيقياً ومعنوياً وان الذي سيقود البشرية الى السعادتين الدنيوية والاخروية ليس الاّ الاسلام والنصرانية الحقّة المنقلبة الى الاسلام والمتفقة معه والتابعة للقرآن بعد تحررها من التحريفات والخرافات!(*)

____________________________

(1) والدليل على هذه الدعوى هو، انه مع قيام حربين عالميتين رهيبتين، وظهور استبداد مطلق قاسٍ نجد أنه بعد خمس واربعين سنة:

1 - قبول بعض الدول الصغيرة كالسويد والنرويج وفنلندا تدريس القرآن في مدارسها، وقبولها له ليكون سداً منيعاً امام الشيوعية والالحاد.

2 - قيام عدد من الخطباء الانكليز المشهورين باقناع الانكليز وحملهم على قبول القرآن.

3 - موالاة اكبر دول المعمورة في الوقت الحاضر- وهي امريكا - لحقائق الدين بكل قواها، واعترافها بأن آسيا وافريقيا ستجدان السعادة والأمن والسلام في ظل الاسلام. فضلاً عن تعاطفها مع دول اسلامية حديثة الولادة ومحاولتها الاتفاق معها.. كل ذلك يثبت صدق هذه الدعوى التي قيلت قبل خمس واربعين سنة، وشاهد قوي عليها.المؤلف.

(2) من ترجمة الاستاذ محمد السباعي لكتاب "الابطال". المترجم

(3) من ترجمة الاستاذ محمد السباعي لكتاب "الابطال". المترجم

(4) من مشاهير السياسيين الالمان (1815 - 1898) وأحد الذين حققوا الوحدة الألمانية. وجعلوها في مقدمة الدول في القرن التاسع عشر. المترجم

(*) صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 493

 

قرئت 6 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد