استناد كل شيء الى اسم من الاسماء الحسنة

 

قطرة نورية من كليات رسائل النورسي 
استناد كل شيء الى اسم 
من الاسماء الحسنة 
بسم الله الرحمن الرحيم
(وان من شيء الاّ يسبّح بحمده)
ان في كل شئ وجوهاً كثيرة جداً متوجهة - كالنوافذ - الى الله سبحانه وتعالى، بمضمون الآية الكريمة (وان من شيء الاّ يسبّح بحمده) اذ ان حقائق الموجودات وحقيقة الكائنات تستند الى الاسماء الإلهية الحسنى، فحقيقة كل شئ تستند الى اسم من الاسماء او الى كثير من الاسماء. وان الاتقان الموجود في الاشياء يستند الى اسم من الاسماء، حتى ان علم الحكمة الحقيقي يستند الى اسم الله " الحكيم " وعلم الطب يستند الى اسم الله " الشافي " وعلم الهندسة يستند الى اسم الله " المقدّر " .. وهكذا كل علم من العلوم يستند الى اسم من الاسماء الحسنى وينتهي اليه، كما ان حقيقة جميع العلوم وحقيقة الكمالات البشرية وطبقات الكمّل من البشر، تستند كلها الى الاسماء الإلهية الحسنى، حتى قال اولياء محققون ان:
" الحقائق الحقيقية للاشياء، انما هي الاسماء الإلهية الحسنى، أما ماهية الاشياء فهي ظلال تلك الحقائق " بل يمكن مشاهدة آثار تجلي عشرين اسماً من الاسماء على ظاهر كل ذي حياة فحسب.
نحاول تقريب هذه الحقيقة الدقيقة والعظيمة الواسعة في الوقت نفسه الى الاذهان بمثال، نصفّيه بمصاف ونحلله بمحللات مختلفة، ومهما يطل البحث بنا فانه يعدّ قصيراً، فينبغي عدم السأم.
اذا اراد فنان بارع في التصوير والنحت، رسم صورة زهرة فائقة الجمال، وعمل 
تمثال حسناء رائعة الحسن، فانه يبدأ اول ما يبدأ بتعيين بعض خطوط الشكل العام لكل منهما.. فتعيينه هذا انما يتم بتنظيم، ويعمله بتقدير يستند فيه الى علم الهندسة، فيعيّن الحدود وفقه.. فهذا التنظيم والتقدير يدلان على انهما فُعلا بعلمٍ وبحكمة.اي ان فعلَي التنظيم والتحديد يتمان وفق "بركار " العلم والحكمة، لذا تحكُم معاني العلم والحكمة وراءَ التنظيم والتحديد، اذن ستبيّن ضوابط العلم والحكمة نفسها.. نعم، وها هي تبيّن نفسها، اذ نشاهد الفنان قد بدأ بتصوير العين والاذن والانف للحسناء واوراق الزهرة وخيوطها اللطيفة الدقيقة داخل تلك الحدود التي حدّدها.
والآن نشاهد ان تلك الاعضاء التي عُيّنت وفق " بركار " العلم والحكمة أخذت صيغة الصنعة المتقنة والعناية الدقيقة، لذا تحكمُ معاني الصنع والعناية وراء " بركار " العلم والحكمة.. اذن ستبين نفسها.. نعم، وها قد بدات قابلية الحسن والزينة في الظهور مما يدل على أن الذي يحرك الصنعة والعناية هو ارادة التجميل والتحسين وقصد التزيين، لذا يحكمان من وراء الصنعة والعناية؛ وها قد بدأ (الفنان) باضفاء حالة التبسم لتمثال الحسناء، وشرع بمنح اوضاع حياتية لصورة الزهرة، اي بدأ بفعلَي التزيين والتنوير. لذا فالذي يحرك معنى التحسين والتنوير هما معنيا اللطف والكرم..نعم! ان هذين المعنيين يحكمان، بل يهيمنان الى درجة كأن تلك الزهرة لطفٌ مجسم وذلك التمثال كرمٌ متجّسد. تُرى ما الذي يحرك معاني الكرم واللطف، وما وراءهما غير معاني التودد والتعرف. اي تعريف نفسه بمهارته وفنه وتحبيبها الى الآخرين.. وهذا التعريف والتحبيب آتيان من الميل الى الرحمة وإرادة النعمة.. وحيث أن الرحمة وارادة النعمة من وراء التودد والتعرّف، فستملآن اذن نواحي التمثال بانواع الزينة والنعم، وستعلقان على الصورة، صورة الزهرة الجميلة هدية ثمينة.. وها نحن نشاهد أن (الفنان)قد بدأ بملء يدي التمثال وصدره بنعمٍ قيمة ويعلّق على صورة الزهرة درراً ثمينة..بمعنى ان معاني الترحم والتحنن والاشفاق قد حرّكت الرحمة وإرادة النعمة.. وما الذي يحرك معاني الترحم والتحنن هذه، وما الذي يسوقهما الى الظهور لدى ذلك المستغنى عن الناس، غير ما في ذاته من جمال معنوي وكمال معنوي يريدان الظهور. إذ إن اجمل ما في ذلك الجمال، وهو المحبة، وألذ ما فيه وهو الرحمة، كل منه - اي المحبة والرحمة - يريد اراءة نفسه بمرآة الصنعة، ويريد رؤية نفسه بعيون المشتاقين، لأن الجمال - وكذا الكمال - محبوب لذاته، يحب نفسه اكثر من اي شئ آخر، حيث أنه حُسن 
وعشق في الوقت نفسه، فاتحاد الحسن والعشق آتٍ من هذه النقطة.. ولما كان الجمال يحب نفسه، فلابد أنه يريد رؤية نفسه في المرايا، فالنعم الموضوعة على التمثال، والثمرات اللطيفة المعلقة على الصورة، تحمل لمعةً براقة من ذلك الجمال المعنوي - كل حسب قابليته - فتُظهر تلك اللمعات الساطعة نفسها الى صاحب الجمال، والى الآخرين معاً.
وعلى غرار هذا المثال ينظم الصانع الحكيم (ولله المثل الاعلى) الجنة والدنيا والسموات والارض والنباتات والحيوانات والجن والانس والملك والروحانيات، اي بتعبير موجز ينظم سبحانه جميع الاشياء كليّها وجزئيها.. ينظمها جميعاً بتجليات اسمائه الحسنى ويعطي لكل منها مقداراً معيناً حتى يجعله يستقرىء اسم "المقدر، المنظم، المصور" . 
وهكذا بتعيينه سبحانه وتعالى حدود الشكل العام لكل شئ تعييناً دقيقاً يُظهر اسم " العليم، الحكيم " . ثم يرسم بمسطرة العلم والحكمة ذلك الشئ ضمن الحدود المعينة، رسماً متقناً الى حد يُظهر معاني الصنع والعناية، اي اسمي: الصانع، الكريم.. ثم يضفي على تلك الصورة جمالاً وزينة، بفرشاة العناية وباليد الكريمة للصنعة، فان كانت الصورة انساناً اضفى على اعضائه كالعين والانف والاذن الواناً من الحسن والجمال.. وان كانت الصورة زهرة اضفى سبحانه الى اوراقها واعضائها وخيوطها الرقيقة الواناً من الجمال والرواء والحسن.. وان كانت الصورة ارضاً منح معادنها ونباتاتها وحيواناتها الواناً من الزينة وضروباً من الجمال والحسن.. وان كانت الصورة جنة النعيم اسبغ على قصورها الواناً من الحسن وعلى حورها انواعاً من الزينة.. وهكذا قس على هذا المنوال.
ثم يزّين ذلك الشئ وينوره بطرازٍ بديع من الزينة والنور حتى تحكُم عليه معاني اللطف والكرم فتجعل ذلك الموجود المزيَّن وذلك المصنوع المنوَّر لطفاً مجسماً وكرماً متجسداً يذكّر باسمى " اللطيـف، الكريم " والذي يسـوق ذلك اللطف والكرم الى هذا التجلي انما هو التودد والتعرّف، اي شؤون تحبيب ذاته الجليلة الى ذوي الحياة وتعريف ذاته الى ذوي الشعـور حتى يُقرأ على ذلـك الشـئ اسـماً " الودود والمعروف " اللذين هما وراء اسمي " اللطيف، الكريم " بل يُسمعان قراءته لذينك الاسمين من حال المصنوع نفسه. ثم يجمّل سبحانه ذلك الموجود المزيّن، وذلك المخلوق الجميل، بثمرات لذيذة، بنتائج محبوبة، فيحوّل - جـل وعـل - الزينة الى 
نعمة، واللطفَ الى رحمة، حتى يدفع كل مشاهد يقرأ اسمي "المنعم، الرحيم " حيث تشف تجليات ذينك الاسمين من وراء الحجب الظاهرية. ثم ان الذي يسوق اسمي الرحيم والكريم وهو المستغني المطلق، الى هذا التجلي انما هو شؤون " الترحم والتحنن " مما يجعل المشاهد يقرأ على الشئ اسمي "الحنان، الرحمن " . والذي يسوق معاني الترحم والتحنن الى التجلي، جمال وكمال ذاتيان، يريدان الظهور، مما يدفع المشاهد الى قراءة اسم "الجميل " ، واسمي " الودود، الرحيم " المندرجين فيه؛ اذ الجمال محبوب لذاته. والجمال وذو الجمال يحب نفسه بالذات فهو حسن وَهو محبة. وكذا الكمال محبوب لذاته، اي محبوب بلا داعٍ الى سبب، فهو مُحبٌّ وهو محبوب.
فما دام جمالٌ في كمال لا نهاية له، وكذا كمالٌ في جمال لا نهاية له، يُحبُّ كلٌ منهما غاية الحب ومنتهاه، وهما يستحقان المحبة والعشق، فلابد انهما يريدان الظهور في مرايا، ويريدان شهود لمعاتهما وتجلياتهم - حسب قابلية المراي - واشهادها الآخرين. 
وهذا يعني ان الجمال الذاتي والكمال الذاتي للصانع ذي الجلال، والحكيم ذي الجمال، والقدير ذي الكمال، يريدان الترحم والتحنن، فيسوقان اسمي "الرحمن، الحنان " الى التجلي. والترحم والتحنن يسوقان اسمي "الرحيم والمنعم " الى التجلي، وذلك باظهار الرحمة والنعمة معاً. والرحمة والنعمة تقتضيان شؤون التودد والتعرف وتسوقان اسمي " الودود والمعروف " الى التجلي فيظهران على المصنوع. والتودد والتعرف يحركان معنى اللطف والكرم ويستقرآن اسمي " اللطيف والكريم " ، في بعض نواحي المصنوع. وشؤون اللطف والكرم تحرك فعلَي التزيين والتنوير فتستقرىء اسمي " المزيّن المنور " بلسان حُسن المصنوع ونورانيته. وشؤون التزيين والتحسين تقتضي معاني الصنع والعناية وتستقرىء اسمي " الصانع المحسن " في السيماء الجميل لذلك المصنوع. وذلك الصنع والعناية تقتضيان العلم والحكمة فيستقرىء المصنوع اسمي "العليم والحكيم " في اعضائه المنتظمة الحكيمة. ولاشك ان ذلك العلم والحكمة تقتضيان افعال التنظيم والتصوير والتشكيل، فيستقرىء المصنوع بشكله وبهيئته، اسمي " المصوّر المقدّر " .
وهكذا خلق الصانع الجليل مصنوعاته كلها، حتى يستقرئ القسم الغالب منها ولا سيما ذوي الحياة، كثيراً جداً من الاسماء الحسنى، وكأنه سبحانه قد ألبس كل 
مصنوع عشرين حلّة متباينة متراكبة، او كأنه لف مصنوعه ذلك بعشرين غطاء وستره بعشرين ستاراً، وكتب على كل حلة، وعلى كل ستار اسماءه المختلفة. 
ففي زهرة واحدة جميلة، وفي حسناء لطيفة، مثلاً في ظاهر خلقهما صحائف كثيرة جد - كما في المثال - يمكنك ان تأخذهما مثالاً تقيس عليهما المصنوعات الاخرى العظيمة.
الصحيفة الاولى: هيئة الشئ التي تبين شكله العام ومقداره، والتي تذكّر باسماء: يا مصور يا مقدر يا منظم.
الصحيفة الثانية: صور الاعضاء المتباينة المنكشفة ضمن تلك الهيئة البسيطة للزهرة والانسان، التي تُسطر في تلك الصحيفة اسماء كثيرة امثال: العليم، الحكيم.
الصحيفة الثالثة: اضفاء الحسن والزينة على الاعضاء المتباينة لذينك المخلوقين بانماط متنوعة من الحسن والزينة حتى تكتب في تلك الصحيفة اسماء كثيرة من امثال: الصانع، البارئ.
الصحيفة الرابعة: الزينة والحسن البديع الموهوبان الى ذينك المصنوعين، حتى كأن اللطف والكرم قد تجسما فيهما، فتلك الصحيفة تذكّر وتقرأ اسماء كثيرة امثال: يا لطيف. يا كريم.
الصحيفة الخامسة: تعليق ثمرات لذيذة على تلك الزهرة، ومنح الاولاد المحبوبين والاخلاق الفاضلة لتلك الحسناء، يجعلان تلك الصحيفة، تستقرئ اسماء كثيرةً امثال: يا ودود يا رحيم يا منعم.
الصحيفة السادسة: صحيفة الإنعام والإحسان التي تقرأ اسماء أمثال: يا رحمن يا حنان.
الصحيفة السابعة: ظهور لمعات حسن وجمال واضحة في تلك النعم وتلك النتائج حتى تكون أهلاً لشكر خالص عُجن بشوق وشفقة حقيقيين، ومستحقاً لمحبة خالصة طاهرة، فتكتب تلك الصحيفة وتقرأ اسماء: يا جميل ذا الكمال يا كامل ذا الجمال.
نعم، ان كانت زهرة جميلة واحدة، وإنسية حسناء جميلة، يُظهران الى هذا الحد من الاسماء الحسنى في صورتهما الظاهرية المادية فقط، فالى اي حد من السمو والكلية تستقرىء جميع الازهار، وجميع ذوي الحياة والموجودات العظيمة الكلية، الاسماء الحسنى الإلهية. يمكنك أن تقيس ذلك بنفسك.
ويمكنك في ضوء ذلك أن تقيس ايضاً مدى ما يقرأه الانسان وما يستقرؤه من الاسماء الحسنى امثال: الحي، القيوم، المحيي، في كلٍ من صحائف الحياة واللطائف الانسانية كالروح والقلب والعقل.
وهكذا..فالجنة زهرة. والحور زهرة. وسطح الارض زهرة، والربيع زهرة، والسماء زهرة ونقوشها البديعة والنجوم والشمس زهرة والوان ضيائها السبعة اصباغ نقوش تلك الزهرة.
والعالم انسان جميل عظيم، مثلما أن الانسان عالم مصغر، فنوع الحور، وجماعة الروحانيات، وجنس الملك، وطائفة الجن، ونوع الانسان، كل من هؤلاء قد صُوّر ونُظم واُوجد في حكم انسان جميل. كما ان كلاً منهم مرايا متنوعة متباينة لإظهار جماله سبحانه وكماله ورحمته ومحبته.. وكل منهم شاهد صدقٍ لجمالٍ وكمال ورحمة ومحبة لا منتهى لها.. وكل منهم آيات جمال وكمال ورحمة ومحبة. 
فهذه الانواع من الكمالات التي لا نهاية لها، حاصلة ضمن دائرة الواحدية والاحدية، وهذا يعني ان ما يُتوهم من كمالات خارج تلك الدائرة ليست كمالاتٍ قطعاً.
فافهم من هذا:
استناد حقائق الاشياء الى الاسماء الحسنى، بل الحقائق الحقيقية انما هي تجليات تلك الاسماء. 
وان كل شئ بجهات كثيرة وبألسنة كثيرة يذكر صانعه ويسبّحه ويقدّسه. وافهم من هذا معنىً واحداً من معاني الآية الكريمة: 
(وان من شيء الاّ يسبّح بحمده)
وقل:سبحان من اختفى بشدة ظهوره.
وافهم سراً من اسرار خواتيم الآيات وحكمة تكرار امثال: وهو العليم القدير. وهو الغفور الرحيم. وهو العزيز الحكيم.
فان لم تستطع ان تقرأ في زهرة واحدة الاسماء الحسنى وتعجز عن رؤيتها بوضوح، فانظر الى الجنة وتأمل في الربيع وشاهد سطح الارض، عند ذلك يمكنك ان تقرأ بوضوح الاسماء المكتوبة على الجنة وعلى الربيع وعلى سطح الارض، التي هي ازاهير كبيرة جداً لرحمة الله الواسعة.(*)
___________________
(*) كليات رسائل النور- الكلمة الثانية والثلاثون - الموقف الثالث ص: 749

قرئت 15 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد