اضرار المبالغة واطلاق الكلام جزافا

بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } (سورة المائدة: 77) 
( هلك المتنطعون )(1)

قطرة نورية من كليات رسائل النورسي
اضرار المبالغة واطلاق الكلام جزافا
المبالغة تشوش الامور وتبلبلها، لان من سجايا البشر: مزج الخيال بالحقيقة، بميل الى الاستزادة في الكلام فيما إلتذ به، والرغبة في اطلاق الكلام جزافاً فيما يصف، والانجذاب الى المبالغة فيما يحكى. وبهذه السجية السيئة يكون الاحسان كالافساد، ومن حيث لا يعلم يتولد النقصان من حيث يزيد، وينجم الفساد من حيث يصلح، وينشأ الذم من حيث يمدح، ويتولد القبح من حيث يُحسن.. وذلك لإخلاله - من حيث لا يشعر -بالحسن الناشئ من الانسجام والموازنة (في المقاصد).
فكما ان الاستزادة من دواء شاف قلبٌ له الى داء، كذلك المبالغون في الترغيب والترهيب، المستغني عنهما الحق، كجعل الغيبة كالقتل او اظهار التبول وقوفاً بدرجة الزنا او التصدق بدرهم مكافئ لحجّة... وامثالها من الكلمات غير الموزونة التي يطلقها المبالغون انما يستخفون بالزنا والقتل ويهوّنون شأن الحج.
فبناءً على هذا: لا بد ان يكون الواعظ حكيماً، وذا دراية بالمحاكمات العقلية. 
نعم!ان الوعاظ الذين لا يملكون موازين، ويطلقون كلامهم جزافاً، قد سببوا حجب كثير من حقائق الدين النيّرة. فمثلاً: الزيادة التي زيدت في معجزة انشقاق القمر الباهرة بالمبالغة في الكلام، وهي ان القمر قد نزل من السماء ودخل تحت أبط الرسول صلى الله عليه وسلم ثم رجع الى السماء. هذه الزيادة، جعلت تلك المعجزة الباهرة كالشمس، مخفيةً كنجم السهى، وجعلت ذلك البرهان للنبوة الذي هو كالقمر، مخسوفاً، وفتحت ابواب حجج تافهة للمنكرين.
حاصل الكلام:
يجب على كل محبّ للدين وعاشق للحقيقة: الاطمئنان بقيمة كل شئ وعدم اطلاق الكلام جزافاً وعدم التجاوز. اذ المبالغة افتراء على القدرة الالهية. وهي فقدان الثقة بالكمال والحسن في العالم واستخفاف بهما واللذين ألجآ الامام الغزالي الى القول: "ليس في الامكان أبدع مما كان".
أيها السيد المخاطب! قد يؤدي التمثيل أيضاً ما يؤديه البرهان من عمل. فكما ان لكل من الالماس والذهب والفضة والرصاص والحديد قيمتها الخاصة، وخاصيتها الخاصة بها، وهذه الخواص تختلف، والقيم تتفاوت. كذلك مقاصد الدين تتفاوت من حيث القيمة والادلة. فان كان وضع أحدها الخيال، فموضع الآخر الوجدان والآخر في سر الاسرار. ان من أعطى جوهرة أو ليرة ذهبية في موضع فلس او عشر بارات، يحجر عليه لسفهه، ويمنع من التصرف في أمواله. واذا انعكست القضية فلا يسمع الاّ كلمات الاستهزاء والاستخفاف، اذ بدلاً من ان يكون تاجراً صار محتالاً يسخر منه. كذلك الامر في من لا يميز الحقائق الدينية ولايعطي لكل منها ما يستحقه من حق واعتبار، ولا يعرف سكة الشريعة وعلامتها في كل حكم. كل حكم شبيه بجزء ترس يدور على محوره لمعمل عظيم. فالذين لا يميزون يعرقلون تلك الحركة. مثلهم في هذا كمثل جاهل شاهد ترساً صغيراً لطيفاً في ماكنة جسيمة، وحاول الاصلاح وتغيير ذلك الوضع المتناسق. ولكن لعدم رؤيته الانسجام الحاصل بين حركة الترس الصغير والماكنة الكبيرة وجهله بعلم المكائن، فضلاً عن غرور النفس الذي يغريه ويخدعه بنظره السطحي؛ تراه يخلّ بنظام المعمل من حيث لا يشعر ويكون وبالاً على نفسه.

زبدة الكلام:
ان الشارع سبحانه وتعالى قد وضع سكته وختمه المعتمد على كل حكم من احكام الشرع. ولابد من قراءة تلك السكة والختم. فذلك الحكم مستغن عن كل شئ سوى قيمته وسكته. فهو في غنىً عن تزيين وتصرف الذين يلهثون وراء المبالغين والمغالين والمنمقين للّفظ.وليعلم هؤلاء الذين يطلقون الكلام جزافاً، كم يكونون ممقوتين في نظر الحقيقة في نصحهم الآخرين. فمثلاً: لم يكتف احدهم بالزجر الشرعي لتنفير الناس عن المسكرات فقال كلاماً امام جمع غفير من الناس اخجل من كتابته، وقد شطبته بعد كتابته.
فيا هذا! انك بكلامك هذا تعادي الشريعة! وحتى ان كنت صديقاً فلا تكون الاّ صديقاً أحمق، واضرّ على الدين من عدوه.
خاتمة:
ايها الظالمون الذين يحاولون جرح الاسلام ونقده من بعيد، من الخارج. زنوا الامور بالمحاكمة العقلية. ولاتنخدعوا ولاتكتفوا بالنظر السطحي. فهؤلاء الذين أصبحوا سبباً لاعذاركم الواهية - في نقد الاسلام - يسمّون بلسان الشريعة "علماء السوء". فانظروا الى ما وراء الحجاب الذي ولّده عدم موازنتهم الامور، وتعلقهم الشديد بالظاهر، سترون: ان كل حقيقة من حقائق الاسلام برهان نيّر كالنجم الساطع، يتلألأ عليه نقش الازل والابد.
نعم، ان الذي نزل من الكلام الازلي يمضي الى الابد والخلود. ولكن - يا للاسف - يلقي احدهم ذنوبه على الاخرين ليبرئ نفسه، وما ذلك الاّ من حبه لها وانحيازه اليها ومن عجزه وانانيته وغروره. وهكذا يسند كلامه الذي يحتمل الخطأ او فعله القابل للخطأ الى شخص معروف، او الى كتاب موثوق، بل حتى احياناً الى الدين، وغالباً الى الحديث الشريف، وفي نهاية المطاف الى القدر الالهي. وما يريد بهذا الا تبرئة نفسه. 
حاشلله ثم حاشَ لله. فلا يرد الظلامُ من النور. وحتى لو ستر النجوم المشاهدة في مرآته لا يستطيع ستر نجوم السماء. بل هو العاجز عن الرؤية والابصار.
أيها السيد المعترض! انه ظلم فاضح جعل الشبهات الناشئة من سوء فهم الاسلام والاحوال المضطربة الناشئة من مخالفة الشريعة، ذريعة لتلويث الاسلام. وما هذا الاّ كالعدو الذي يتذرع لأي سبب كان للانتقام والثأر. او مثل الطفل الذي يروم البكاء لأتفه سبب. اذ ان كل صفة من صفات المسلم لا يلزم ان تكون ناشئة من الاسلام.(*)
________________
(1) صحيح مسلم: كتاب العلم (2670)
(*) صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 46

قرئت 25 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد