الاطلاق والأبهامَ في القران ومسلك التعليم والارشاد

 

ايها المستخلف المبارك 
السؤال:
لماذا اطلق القرآن الكريم وأبهمَ في حقائق الخِلقة وفنون الكائنات مع انه مناف لمسلك التعليم والارشاد؟
الجواب 
فاعلم!ان في شجرة العالم ميلَ الاستكمال، وتشعَّبَ منه في الانسان ميلُ الترقي، وميل الترقي كالنواة يحصل نشوّه ونماءه بواسطة التجارب الكثيرة، ويتشكل ويتوسع بواسطة تلاحق نتائج الأفكار؛ فيثمر فنوناً مترتبة بحيث لا ينعقد المتأخر الاّ بعد تشكل المتقدم، ولا يكون المتقدم مقدمة للمؤخر الا بعد صيرورته كالعلوم المتعارفة. فبناء على هذا السر لو أراد أحد تعليم فنٍ أو تفهيم علمٍ - وهو انما تولد بتجارب كثيرة -ودعا الناس اليه قبل هذا بعشرة أعصر لا يفيد الاّ تشويش اذهان الجمهور، ووقوع الناس في السفسطة والمغلطة. 
مثل:لو قال القرآن الكريم" ايها الناس انظروا الى سكون الشمس(1) وحركة الأرض واجتماع مليون حيوان في قطرة، لتتصوروا عظمة الصانع" لأَوْقع الجمهورَ إما في التكذيب واما في المغالطة مع أنفسهم والمكابرة معها بسبب ان حسهم الظاهريّ - أو غلط الحس - يرى سطحية الأرض ودوران الشمس من البديهيات المشاهَدة.والحال ان تشويش الاذهان - لا سيما في مقدار عشرة أعصر لتشهِّي بعض أهل زماننا -منافٍ لمنهاج الارشاد وروح البلاغة.
يا هذا! لا تظنن قياس أمثالها على النظريات المستقبلة من أحوال الآخرة(2)..اذ الحس الظاهري لما لم يتعلق بجهة منها بقيت في درجة الامكان فيمكن الاعتقاد والاطمئنان بها فحقها الصريح التصريح بها. لكن ما نحن فيه لما خرج من درجة الامكان والاحتمال في نظرهم - بحكم غلط الحس - الى درجة البداهة عندهم فحقه في نظر البلاغة الابهام والاطلاق احتراما لحسياتهم وحفظاً لاذهانهم من التشويش. ولكن مع ذلك اشار القرآن الكريم ورمز ولوّح الى الحقيقة، وفتح الباب للأفكار ودعاها للدخول بنصب امارات وقرائن. فيا هذا ! ان كنت من المنصفين اذا تأملت في دستور "كلِّم الناس على قدر عقولهم" ورأيت ان أفكار الجمهور لعدم اعداد الزمان والمحيط لا تتحمل ولاتهضم التكليف بمثل هذه الأمور - التي انما تتولد بنتائج تلاحق الأفكار - لعرفت ان ما اختاره القرآن الكريم من الابهام والاطلاق من محض البلاغة ومن دلائل اعجازه. (*)
_____________

(1) قد سنح لى في المرض بين النوم واليقظة في والشمس تجرى لمستقر لها اى في مستقرها، لاستقرار منظومتها، اى جريانها لتوليد جاذبتها النظامة للمنظومة الشمسية، ولو سكنت لتناثرت(هذه الحاشية النومية دقيقة لطيفة) - المؤلف.
(2) اى لا تظنن ان امور الآخرة واحوالها التى هى مجهولة لنا كتلك النظريات التى يكشف عنها المستقبل (ت:133)
(*) كليات رسائل النور- إشارات الإعجاز- ص: 175

قرئت 8 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد