الايمان لا يتجزأ

 

 

السؤال:

لِمَ يُعتبر كافراً من يُنكرُ جزءاً من حقيقة ايمانية، ولايُعد مسلما مَن لم يقبلها، مع ان نور الايمان بالله واليوم الآخر كالشمس يبدد كل ظلام ؟

ثم، لِمَ يصبح مرتدا مَن ينكر حقيقة او ركناً ايمانياً ويرديه الى الكفر المطلق، ومَن لم يقبلها يخرج من دائرة الاسلام. بينما ينبغي أن ينقذه ايمانه بالاركان الاخرى - ان وجد - من ذلك الكفر المطلق ؟

الجواب:

ان الايمان حقيقة واحدة نابعة من ستة اركان متحدة وموحدة لاتقبل التفريق، وهو كليّ لايتحمل التجزأة، وهو كلٌ لاتقبل اركانه الانقسام، ذلك لان كل ركن من تلك الاركان الايمانية - مع حججها التي تثبته - يثبت بقية الاركان، فيصبح كل ركن حجة قاطعة عظمى لكل من الاركان الاخرى. لذا فالذي لايتمكن من جرح جميع الاركان مع جميع أدلتها يعجز كليا - من وجهة الحقيقة - نفي ركن واحد منها؛ وتفنيد حقيقة واحدة من حقائقها، الا ان يغمض المنكر عينيه ويتشبث بعدم القبول او الرفض، فيدخل عندئذ الكفر العنادي، ويسوقه ذلك بمرور الزمن الى الكفر المطلق، فتنعدم انسانيته ويولى الى جحيم مادي فضلا عمّا هو فيه من جحيم معنوي

 سنبين هنا باشارات مختصرة جدا ومجملة المغزى العميق العظيم لهذه الاية معتمدين على عنايته سبحانه. وذلك في ست نقاط:

النقطة الاولى:

 ان (الايمان بالله) بحججه القاطعة يثبت (الايمان بالآخرة) مع اثباته سائر الاركان الايمانية الاخرى.

 نعم؛ ان سلطنة الربوبية وقدرتها الازلية وقوتها الباقية وغناها المطلق وحاكمية الالوهية الابدية الدائمة التي تدير هذا الكون غير المحدود - مع جميع لوازمه وضرورياته - كادارة قصر او مدينة.. والتي تصرف جميع شؤونه ضمن نظام وميزان، وتغيره على وفق حكم كثيرة.. والتي تدير الذرات والكواكب،وتجهز الذباب والنجوم معا كالجنود المطيعين للجيش المنسق.. والتي تسوق الجميع - ضمن ارادتها وأمرها - الى استعراض هائل عام للعبودية الخالصة، من خلال مناورة سامية وابتلاء واختبار وتدريب على الوظائف وتعليم لها، بفعالية ونشاط دائم وسير وجولان مستمر.. هل يمكن، ام هل يعقل، لا بل هل هناك اي احتمال قط في الاّ يكون هناك مقر باق، ومملكة دائمة، وظهور خالد وتجل سرمدي في دار أبدية لمثل هذه السلطنة الابدية ولمثل هذه الحاكمية الباقية الدائمة؟ حاشا وكلا.. والف مرة كلا.

 فسلطنة ربوبية الله جل وعلا وعظمتها اذاً، واغلب اسماء الله الحسنى وجميع دلائل وحجج وجوب وجوده سبحانه وتعالى، تشهد جميعا وتدل على (الآخرة) وتقتضيها.

 فما اعظم مرتكز هذا الركن الايماني العظيم، وما أمتن نقطة استناده ! ألا فادرك ذلك، وصدق به كأنك تراه.

*   *   *

 ثم ان (الايمان بالله) كما لايمكن ان يكون دون (الايمان بالآخرة) كذلك لايمكن ولايعقل، ان يكون (الايمان بالله) دون (الايمان بالرسل)

ان الله تعالى الذي خلق هذا الكون اظهاراً لالوهيته ومعبوديته، على هيئة كتاب صمداني مجسم بحيث تعبّر كل صحيفة من صحائفه عن معاني كتاب، ويُظهر كل سطر من اسطره معنى صحيفة.. وخَلقه على شكل قرآن سبحاني مجسم بحيث ان كل آية من آياته التكوينية، وكل كلمة من كلماته، بل حتى كل حرف منه وكل نقطة بمثابة معجزة تقدسه وتسبحه.. وخلقه على صورة مسجد رحماني مهيب وزيّنه بما لايحد من الآيات والنقوش الحكيمة، بحيث أن في كل زاوية من زواياه طائفة منهمكة بنوع من العبادة الفطرية لخالقهم الرحمن..

 فهل يمكن الاّ يرسل هذا الخالق المعبود الحق اساتذة ليدرسّوا معاني مافي ذلك الكتاب الكبير ويعلموا مافيه؟.. أم هل يمكن الاّ يبعث مفسرين ليفسروا آيات ذلك القرآن المجسم الصمداني؟.. أم هل يمكن الاّ يعيّن ائمة لذلك المسجد الاكبر ليؤموا الذين يعبدونه بانماط واشكال مختلفة من العبادات؟.. أم هل يمكن الاّ يزود اولئك الاساتذة والمفسرين والائمة بالاوامر السلطانية؟ حاش لله وكلا.. وألف مرة كلا.!

 ثم ان الخالق الرحيم الكريم الذي خلق هذا الكون اظهاراً لجمال رحمته على ذوي الشعور وحسن رأفته بهم وكمال ربوبيته لهم وليحثهم على الشكر والحمد، قد خلقه على هيئة دار ضيافة فخمة، ومعرض رائع واسع، ومتنزه جميل بديع. وأعد فيه ما لا يحد من النعم اللذيذة المتنوعة المختلفة، ونظم فيه ما لايعد من خوارق الصنعة وبدائعها الرائعة..

 فهل يمكن الاّ يتكلم هذا الخالق الرحيم الكريم - بواسطة رسله - مع ذوي الشعور من مخلوقاته في دار ضيافته الفاخرة هذه.. أم هل يعقل الاّ يعلمهم وظائف شكرهم وكيفية امتنانهم تجاه تلك النعم الجسيمة، ومهام عبوديتهم تجاه رحمته السابغة وتودده الظاهر؟! كلا.. ثم ألف ألف مرة كلا.!

 ثم ان الخالق الذي يحب خلقه وصنعته، ويريد جلب الاعجاب والتقدير اليه، بل يطلب استحسانه وإكباره، بدلالة ايداعه الإحساس بآلاف الانواع من الاذواق في الافواه، فيعرّف نفسه سبحانه بكل مخلوق من مخلوقاته ويظهر به نوعاً من جماله المعنوي ويجعله موضع حب مخلوقاته، فزيّن هذا الكون ببدائع صنائعه ومخلوقاته.

فهل يعقل الاّ يتكلم هذا الخالق البديع مع أفاضل الانسان الذي هو سيد المخلوقات؟.. وهل يمكن ألاّ يبعث من اولئك الافاضل رسلا، فتظل تلك الصنائع الجميلة دون تقدير، ويظل جمال تلك الاسماء الحسنى الخارقة دون استحسان ولا اعجاب، ويظل تعريفه وتحبيبه دون مقابل ؟! حاش لله وكلا.. ثم ألف مرة كلا.!

 ثم ان المتكلم العليم الذي يستجيب - في الوقت المناسب - لدعوات جميع ذوي الحياة، ملبيا حاجاتها الفطرية، ومغيثا تضرعاتها ورغباتها المرفوعة اليه بلسان الحال، فيتكلم صراحة فعلاً وحالاً بإحساناته غير النهائية لهم وانعاماته غير المحدودة عليهم، مُظهراً القصد والاختيار والارادة. فهل يمكن وهل يعقل ان يتكلم هذا المتكلم العليم مع أصغر كائن حي فعلاً وحالاً ويسعف داءه، ويغيثه باحسانه، ويسد حاجاته، ثم لايقابل الرؤساء المعنويين للانسان الذي هو سيد اغلب المخلوقات الارضية، وهو خليفة الله في ارضه، وهو النتيجة المستخلصة من الكائنات؟.. ام هل يعقل ألاّ يتكلم معهم قولا وكلاما مثلما يتكلم مع كل ذي حياة فعلا وحالا؟.. ام هل يمكن الاّ يرسل معهم اوامره، وصحفه وكتبه المقدسة؟ حاشا لله.. ثم ألف مرة كلا.!

 وهكذا يثبت " الايمان بالله " مع حججه القاطعة الثابتة الايمان (بكتبه) المقدسة (وبرسله) الكرام عليهم السلام.

*   *   *

 ثم ان الذي جعل الكون يدوي بحقيقة القرآن ويترنم بها، والذي عرف وعرّف باكمل وجه ذلك الخالق البديع فأحبه وحببه، وأدى شكره له ودلّ الآخرين على القيام بشكره، بل جعل الارض تردد " سبحان الله والحمد لله والله اكبر " حتى اسمعت السموات العلى.. والذي قابل الربوبية الظاهرة للخالق بعبودية واسعة كلية، فقاد خمس البشرية كمية ونصفها نوعية خلال ألف وثلاثمائة سنة قيادة اهاج بها البر والبحر وملأهما شوقا ووجدا.. والذي هتف بالقرآن الكريم في اذن الكون وعلى مدى جميع العصور ازاء المقاصد الالهية، فألقى درسا عظيما، ودعاً بدعوة كريمة، مظهراً وظيفة الانسان وقيمته، ومبيناً مرتبته ومنزلته.. ذلك هو محمد الامين صلى الله عليه وسلم الصادق المصدق بألف معجزة ومعجزة.

فهل يمكن ألا يكون هذا العبد العزيز المصطفى المختار اكرم رسول لذلك المعبود الحق؟.. وهل يمكن الاّ يكون أعظم نبي له ؟ حاشا وكلا.. ألف ألف مرة كلا.!

 فحقيقة (اشهد ان لا إله إلا الله) مع حججها اذاً تثبت حقيقة (اشهد أن محمداً رسول الله).

*   *   *

 ثم ان الخالق الذي جعل مخلوقاته يتبادلون الكلام بمئات الآلاف من الالسنة واللغات وهو الذي يسمع كلام الجميع ويعرفه، فهل يمكن ألاّ يتكلم هو ؟.. كلا ثم كلا ! ثم هل يعقل الاّ يعلّم مقاصده الإلهية بكتاب عظيم كالقرآن الكريم الذي يجيب عن ثلاثة اسئلة تحار العقول امامها: من اين تأتي هذه المخلوقات ؟ والى اين المصير ؟ ولماذا تتعاقب ثم لاتلبث أن تغيب ؟... كلا.

 فالقرآن الكريم الذي نوّر ثلاثة عشر قرنا واضاءها..والذي يتناقله في كل ساعة مائة مليون لسان بكل اجلال وتوقير.. والذي سُطر في صدور ملايين الحفاظ بكل سمو وقداسة.. والذي أدار بقوانينه القسم الاعظم من البشرية، وربّى نفوسهم وزكّى ارواحهم، وصفى قلوبهم وأرشد عقولهم.. والذي هو معجزة خالدة كما اثبتنا اعجازه بأربعين وجها في رسائل النور، فوضح ان له اعجازاً لكل طبقة من الطبقات الاربعين للناس (كما جاء في المكتوب التاسع عشر ذات الكرامة الخارقة).. هذا القرآن العظيم استحق بحق ان يطلق عليه " كلام الله " فاصبح محمد صلى الله عليه وسلم مع آلاف من معجزاته معجزة باهرة له.

 فهل يمكن ألاّ يكون هذا القرآن الكريم كلام ذلك المتكلم الازلي سبحانه ؟ وهل يمكن ألاّ يكون اوامر ذلك الخالق السرمدي جل وعلا ؟ حاش لله وكلا ألف ألف مرة كلا !

ف " الايمان بالله " مع جميع حججه اذاً يثبت ان القرآن الكريم كلام الله عز وجل.

   ثم ان السلطان ذا الجلال الذي يملأ سطح الارض بذوي الحياة باستمرار ويفرغه، معمراً دنيانا بذوي الشعور لاجل معرفته سبحانه وعبادته وتسبيحه.

هل يمكن لهذا السلطان ذي الجلال ان يترك السموات والنجوم خالية فارغة، ولايعمر تلك القصور السماوية بأهالي وسكنة تناسبها؟..

وهل يمكن ان يترك (هذا السلطان العظيم) سلطنة ربوبيته في اوسع ممالكه بلا هيبة وعظمة، وبلا موظفين مأمورين، وبلا سفراء رسل، وبلا ناظرين مشرفين، وبلا مشاهدين معجبين، وبلا عباد مكرمين، وبلا رعايا مطيعين ؟ حاش لله وكلا.. بعدد الملائكة.

 ثم ان الحاكم الحكيم والعليم الرحيم الذي كتب هذا الكون بشكل كتاب، حتى سجل تاريخ حياة كل شجرة في كل بذر من بذورها، ودوّن وظائف حياة كل عشب ومهام كل زهر في جميع نواها. وكتّب جميع حوادث الحياة لكل ذي شعور في قواه الحافظة الصغيرة كحبة الخردل. واحتفظ بكل عمل في ملكه كافة وبكل حادثة في دوائر سلطنته بالتقاط صورها المتعددة، والذي خلق الجنة والنار والصراط والميزان الاكبر لاجل تجليات وتحقق العدالة والحكمة والرحمة التي هي اهم اساس للربوبية..

 فهل يمكن لهذا الحاكم الحكيم ولهذا العليم الرحيم الاّ يسجل اعمال الانسان التي تتعلق بالكائنات؟..

وهل يمكن الاّ يدون افعاله للثواب والعقاب ولايكتب سيئاته وحسناته في الواح القدر ؟! حاش لله وكلا بعدد حروف ما كتب في اللوح المحفوظ للقدر.

 اي ان حقيقة " الايمان بالله " مع حججها تثبت حقيقة " الايمان بالملائكة " كما تثبت حقيقة " الايمان بالقدر " ايضا اثباتا قاطعا. كالشمس التي تظهر النهار والنهار الذي يدل على الشمس.

 وهكذا فالاركان الايمانية يثبت بعضها البعض الآخر.

النقطة الثانية:

 ان جميع ما دعت اليه الكتب والصحف السماوية وفي مقدمتها القرآن الكريم وجميع الدعوات التي قام بها الانبياء عليهم السلام وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم تدور على اسس ثابتة، واركان معينة. ولقد سعى جميعهم لاثبات الاسس وتلقينها للآخرين. لذا فجميع الحجج والدلائل التي تشهد على نبوتهم وصدقهم متوجهة معا الى تلك الاسس والاركان مما يزيدها قوة وأحقية. وما تلك الاسس الا الايمان بالله، وباليوم الآخر، وبملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى.

 فلا يمكن اذن التفريق بين اركان الايمان الستة اطلاقاً، حيث أن كل ركن من الاركان يثبت الاركان عامة بل يستدعيها ويقتضيها، لذا فان الاركان الستة كلٌ لايقبل التجزأة البتة، وكلّي لا يمكن ان ينقسم ابداً. فكما ان كل غصن من اغصان الشجرة المباركة (شجرة طوبى) الممتد جذرها في السماء، وكل ثمر من ثمارها وكل ورقة من اوراقها يستند على الحياة الخالدة لتلك الشجرة، فلا يمكن لأحد ان ينكر حياة ورقة واحدة متصلة بتلك الشجرة ما لم يتمكن له إنكار حياة تلك الشجرة الظاهرة ظهوراً ساطعاً كالشمس. ولئن انكر فان تلك الشجرة تكذبه بعدد اغصانها وثمارها واوراقها وتسكته، كذلك الايمان بأركانه الستة هو بالصورة نفسها.

 هذا ولقد كانت النية معقودة على بيان الاركان الايمانية الستة في ست نقاط وفي كل نقطة خمس نكات ذات مغزى، وكانت الرغبة متوجهة الى اجابة السؤال المثير الوارد في المقدمة ببيان اكثر وتوضيح أوسع، الا أن عوائق وعوارض حالت دون ذلك. بيد أنني أخال أن " النقطة الاولى " لم تدع سبيلا لايضاح اكثر لاهل الدراية، حيث انها مقياس كاف للموضوع.

 وهكذا وضح تماماً انه؛ اذا ما انكر المسلم اية حقيقة ايمانية كانت فانه يتردى الى الكفر المطلق؛ اذ تسلسلت الاركان الايمانية بعضها ببعض، وفصّل الاسلام ووضح ماأجمل في الاديان الاخرى. فالمسلم الذي لايعرف محمداً صلى الله عليه وسلم ولايصدق به فلايعرف الله سبحانه (بصفاته) ولايعرف الآخرة كذلك.. فايمان المسلم قوي ورصين الى درجة لايتزعزع ابداً ولايدع مجالاً للانكار قطعاً لاستناده الى حجج كثيرة جداً، حتى كأن العقل يرضخ رضوخاًلقبول هذا الايمان.

النقطة الثالثة:

قلت ذات مرة " الحمد لله " . ثم بحثت عن نعمة عظيمة جداً تقابل معناها الواسع جداً، فخطر على القلب الجملة الآتية:

[الحمد لله على الايمان بالله، وعلى وحدانيته، وعلى وجوب وجوده وعلى صفاته، واسمائه، حمداً بعدد تجليات اسمائه من الازل الى الابد].

فتأملت فيها فوجدتها مطابقة تماماً للمعنى.. (*)

 

 _________________________

(*) كليات رسائل النور- الشعاع الحادي عشر- المسألة التاسعة - ص294

 

قرئت 38 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد