الايمان هو الانتساب
باسمه سبحانه
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أجْر غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾(التين:4-6)
ايها المستخلف المبارك
إن الإنسانَ يسمو بنور الإيمان إلى أعلى علّيين فيكتسب بذلك قيمةً تجعلُه لائقا بالجنة، بينما يتردّى بظلمةِ الكفر إلى أسفل سافلين فيكون في وضعٍ يؤهّلُه لنار جهنم، ذلك لأنّ الإيمان يربطُ الإنسان بصانعهِ الجليل، ويربطه بوثاق شديد ونسبةٍ إليه،
فالإيمانُ إنما هو انتساب؛ لذا يكتسب الإنسانُ بالإيمان قيمةً سامية من حيث تجلِّي الصنعةِ الإلهية فيه، وظهورِ آيات نقوشِ الأسماء الربانية على صفحةِ وجوده.
أما الكفرُ فيقطع تلك النسبةَ وذلك الانتسابَ، وتغشى ظلمتُه الصنعةَ الربانية وتطمِس على معالمها، فَتنقُص قيمةَ الإنسان حيث تنحصر في مادّته فحسب؛ وقيمةُ المادة لا يُعتدّ بها فهي في حكم المعدوم، لكونها فانية، زائلة، وحياتُها حياة حيوانية مؤقتة.
وها نحن أولاءِ نبيّنُ هذا السرَّ بمثال توضيحي: إن قيمةَ المادة تختلف عن قيمة الصنعة ومدى الإجادة فيما يصنعه الإنسان، فنرى أحيانا القيمتين متساويتين، وقد تكون المادةُ أكثرَ قيمةً من الصنعة نفسِها، وقد يحدث أن تحتوي مادةُ حديد على قيمة فنيةٍ وجمالية عاليةٍ جدا، ويحدث أن تحوز صنعة نادرة نفيسة جدا قيمةَ ملايين الليرات رغم كونها من مادة بسيطة جدا.
فإذا عُرضَت مثل هذه التحفةِ النادرة في سوق الصنّاعين والحرفيين الـمُجيدين وعرفوا صانعَها الباهر الماهر الشهير فإنها تحوز سعر مليون ليرة، أما إذا أخذتْ التحفةُ نفسُها إلى سوق الحدادين -مثلا- فقد لا يتقدم لشرائها أحد، وربما لا ينفق أحد في شرائها شيئا.
وهكذا الإنسان، فهو الصنعة الخارقة للخالق الصانع سبحانه، وهو أرقى معجزةٍ من معجزات قدرته وألطفُها، حيث خلَقه الباري مَظهرا لجميع تجليات أسمائه الحسنى، وجعله مدارا لجميع نقوشه البديعة جلّت عظمته، وصيّره مثالا مصغرا ونموذجا للكائنات بأسرها.
فإذا استقر نورُ الإيمان في هذا الإنسان بَيّن -ذلك النورُ- جميعَ ما على الإنسان مننقوش حكيمة، بل يستقْرئها الآخرين؛ فيقرأها المؤمن بتفكر، ويشعُر بها في نفسه شعورا كاملا، ويجعل الآخرين يطالعونها ويتملّونَها، أي كأنه يقول: " ها أنا ذا مصنوع الصانع الجليل ومخلوقُه. انظروا كيف تتجلى فيّ رحمتُه، وكرمُه ". وبما شابهها من المعاني الواسـعة تتجلّى الصنعة الربانية في الإنسان.
إذن الإيمان - الذي هو عبارة عن الانتساب إلى الصانع سبحانه - يقوم بإظهار جميع آثار الصنعة الكامنة في الإنسان، فتتعين بذلك قيمةُ الإنسان على مدى بروز تلك الصنعة الربانية، ولمعانِ تلك المرآة الصمدانية. فيتحول هذا الإنسان -الذي لا أهمية له- إلى مرتبة أسمى المخلوقات قاطبة، حيث يصبح أهلا للخطاب الإلهي، وينال شرفا يؤهله للضيافة الربانية في الجنة.
أما إذا تسلّل الكفر - الذي هو عبارة عن قطع الانتساب إلى اللّٰه - في الإنسان، فعندئذٍ تسقط جميعُ معاني نقوش الأسماء الحسنى الإلهية الحكيمة في الظلام وتُمحى نهائيا، ويتعذر مطالعتَها وقراءتها؛ ذلك لأنه لا يمكن أن تُفهَم الجهاتُ المعنوية المتوجهة فيه إلى الصانع الجليل، بنسيان الصانع سبحانه، بل تنقلب على عقبيها، وتندرس أكثرُ آيات الصنعة النفيسة الحكيمة وأغلبُ النقوش المعنوية العالية، أما ما يتبقى منها مما يتراءى للعـين فسوف يُعزى إلى الأسباب التافهة، إلى الطبيعة والمصادفة، فتسقط نهائيا وتزول، حيث تتحول كل جوهرةٍ من تلك الجواهر المتلألئة إلى زجاجةٍ سوداء مظلمة، وتقتصر أهميتُها آنذاك على المادة الحيوانية وحدَها. وكما قلنا، إن غاية المادة وثمرتها هي قضاء حياة قصيرة جزئية يعيشها صاحبها وهو أعجز المخلوقات وأحوجها وأشقاها، ومن ثم يتفسخ في النهاية ويزول..
وهكذا يهدم الكفرُ الماهيةَ الإنسانية ويحيلها من جوهرةٍ نفيسة إلى فحمةٍ خسيسة. (*)
______________
كليات رسائل النور – الكلمات ص:348