التناسخ

التناسخ [1] 

يُطلق التناسخ على الاعتقاد الباطل الذي يقبل بانتقال الأرواح من جسد إلى آخر. وتعتبر الأجساد – في ضوء هذا الاعتقاد الباطل – بمثابة قوالب للأرواح، فتنتقل الروح من قالب إلى آخر ومن جسد إلى جسد. ومن ثم تنتقل بعد تركها لجسدها الأخير إلى جسد أي حيوان يعيش في البر والبحر والجو، ومنه تنتقل إلى حيوان آخر ومنه تعود إلى جسد إنسان آخر، وهكذا تدوم حياتها بانتقالها بين الأجساد. حتى ان أقواماً بدائيون كانوا يعتقدون ان روح الإنسان في بداية أمرها تنتقل إلى المعادن ومن ثم إلى النباتات ومنها إلى الإنسان وبذلك تتكون دورة مستمرة بانتقالها من جسد إلى آخر. وحاول فيثاغورس[2] وضع عبارته التالية : (( تنتقل الروح من جسد إلى آخر عندما تتغلب على المادة)) في إطار نظرية فلسفية. فتلقت هذه النظرية قبولاً من قبل الناس البسطاء فكرياً حتى بداية القرون الأولى. فانحرفوا بذلك ظناً منهم ان رغبة البقاء الأبدية الموجودة في فطرتهم تسكن وتطمئن بهذه النظرية. وذلك إما لعدم إيمانهم بالكتب السماوية أو بعدهم عن رسالات الأنبياء ( عليهم السلام) أو لعدم استيعاب عقولهم الضيقة بوجود المنازل الأبدية الخالدة لله سبحانه في الدار الآخرة.

    وبمرور الزمن البس هذا الاعتقاد طابعاً فلسفياً.

 

تاريخ التناسخ:

    هناك آراء عديدة حول مكان ظهور التناسخ لأول مرة. ويشير قسم من المصادر إلى أن هذه النظرية ظهرت في مصر القديمة. وإلى هذا ذهب المؤرخ هيرودوت. وكان الاعتقاد آنذاك بأن روح الإنسان الميت تنتقل إلى جسد الحيوانات ولاسيما جسد الطيور والثعابين لتستمر حياتها. وكان المصريون القدماء يؤمنون بخروج روح الإنسان عقب وفاته وانتقالها إلى جسد حيوان ومن ثم عودتها إلى جسد إنسان آخر بعد دخولها في أجساد الحيوانات في البر البحر والجو. وكان بناء الأهرامات في عصر الفراعنة بوحي من هذه الخرافة.

واستناد إلى قسم من المصادر فان هذه السفسطة القديمة انتقلت إلى اليونان بوساطة فيثاغورس الذي كان يدرس في مصر، ومنها انتقلت إلى الدول الغربية.

    أما في الشرق فان فكرة التناسخ ظهرت في الهند بشكل واسع. وكانت أقوام المناطق الحارة الواقعة على ضفاف نهري الكانج والسند على اعتقاد بان روح الإنسان بعد موته تستمر في أجساد الطيور.

    وعندما نلقي نظرة إلى تاريخ الأديان تظهر لنا أن هذه الخرافة قبل ظهورها في الهند ومصر، كانت سائدة عند أقوام بدائية كانوا يؤمنون بآلهة عديدة. ونجد أيضاً آثار هذه فكرة عند الطوطمية [3] .

    وكان الإنسان القديم يعتقد بان روح الإنسان لا تنتقل إلى إنسان آخر فحسب. بل إلى الحيوانات والنباتات أيضاً. ولذا أطلق على انتقال الروح من جسد إنسان إلى جسد إنسان آخر بـ (( النسخ)) وعلى انتقالها من جسد إنسان إلى جسد حيوان بـ(( المسخ)) وعلى انتقالها إلى النباتات بـ (( الرسخ)). وعلى انتقالها إلى المعادن والجمادات بـ (( الفسخ)).

    وظهرت هذه الخرافة بأشكال متعددة في اليونان القديم وفي مصر والهند والصين وإيران. فمثلا ان فكرة التناسخ كانت هي السائدة في الهند، بحيث شملت جميع الموجودات. وعند البوذية والبراهمة تحولت هذه الفكرة إلى شكل باطني وخفي. وفي النهاية ظهرت بهذا الاعتقاد : (( تبلغ الأرواح الطاهرة والبريئة إلى نيروانا. أما الأرواح المذنبة العاصية فإنها تتجول في أجساد الحيوانات حتى تتطهر من ذنوبها)).

    أما المصريون القدماء، فقد اعتقدوا بان التناسخ يكون بانتقال روح الإنسان إلى الحيوانات ومن ثم عودتها إلى إنسان آخر.

    وفي اليونان القديمة، وحسب علمنا من تاريخ الفلسفة، كان فيثاغورس وأفلاطون هما في مقدمة الذين حاولوا تلبيس زي الفلسفة على فكرة التناسخ. ومن بعدهما اتباع أفلاطون الجدد.

    وان هذه الفكرة القديمة التي ظهرت بشكل بدائي في مصر قد أخذت شكلاً باطنياً في الهند، وألبِسَتْ لباساً فلسفياً في اليونان، وأما في إيران فقد أعطيَ لهذا الاعتقاد الباطل زخرفاً دينياً ومذهباً أخلاقياً. وحازت هذه الفكرة على مؤيدين من طوائف دينية كالزرادشتية والمزدكية. وكما وجدت هذه الفلسفة الباطلة- التي أتت قديما من إيران- موطأ قدم لدى قسم من غلاة الشيعة وذلك تحت ستار التشيع. ويأخذ الإنسان الأسى عندما يرى مَن يؤمن بهذه السفسطة في عصرنا هذا عصر العلم والفن والفكر!.وان هؤلاء إنما يعيشون خيالاً في العصور الأولى وهم تحت وطأة دوامة هذا العصر.

    والظاهر، ان هذا الاعتقاد الذي ساد في اليونان القديم والهند ومصر وغيرها من البلدان في ذلك الوقت قد فقد تأثيره وأهميته بمرور الزمن، ولا سيما بانتشار الإسلام حيث مسحه نهائياً من الأفكار.

    لكن هناك مَن يريد عرض هذه السفسطة من جديد في عصرنا الحاضر. وفي مقدمتهم الفرنسي كارلس فورييه Charles Fourrier وبيير ليروى Pierre Lerou  وهما من المتشددين الاشتراكيين الذي لا يؤمنون بالروح حسب اعتقادهم الباطل. فالتفوا حول فكرة التناسخ هذه وذلك بقصد الضرر بالإيمان بالآخرة المذكور في الأديان السمأوية. ومهدوا لفكرتهم تلك قواعد وأسس أولية. أما اليوم فان المتعلقين بهذه الخرافة هم وحدهم يشيعون هذه الخرافة ويعلنونها بين الناس.

 

دلائل داحضة لدعوة التناسخ :

    لا توجد لفكرة التناسخ التي تعادي أسس وعقائد جميع الأديان السمأوية أية نقطة استناد علمي. وان عدد الذين يدعون إلى هذه الفكرة ضئيل جداً يكاد لا يدخل ضمن الإحصائيات الموجودة في سكان العالم.

    وقبل الدخول في تفاصيل الأدلة التي تدحض هذه الفكرة نشير إلى :

    ان كل فرد وكل مخلوق في الكائنات من النجوم إلى الذرات إنما هو تحت تصرف وحاكمية إرادة مطلقة وعلم محيط وقدرة جليلة. وهو من آثار نظام كامل. أي ان جميع الموجودات يظهر إلى الوجود ويرحل بتدبير الله وتنظيمه، ويقوم بوظائفه بإرادة الله تعالى وعلمه المطلقين. فالشموس الضخمة والمجرات الواسعة العظيمة بعملها وحركاتها المنتظمة التي خلقها الله والتي لا تخرج من محورها طرفة عين، ترينا أن الأرواح والأجساد ليست حرة طليقة تتجول كيفما تشاء،  ولا تخالف هذا النظام البديع. وان فكرة التناسخ التي تفصل الروح عن هذا النظام، تخالف تماماً الحكمة الإلهية. وهي افتراء كبير للصفات القدسية لله سبحانه أمثال اللطف والكرم والإحسان والعناية.

    نعم ان حكمة الله ورحمته تفند هذه الخرافة القبيحة، فهل من الممكن الإلهية التي جعلت هذا الإنسان خليفة الأرض وسلطان الكون وسخرت له السماوات والأرض وخلقته في فطرة سامية بحيث اصبح خلاصة هذا الكون وثمرته، وأبدعته في صورة كاملة، وفي استعداد جامع وواسع، أن تسقط هذه الروح التي تحمل هذه الماهية إلى آلاف الدركات وتنقلها بين أجساد الفئران والكلاب والثعابين... والأقبح من كل هذا في أجساد القردة ؟ وهل تسمح بذلك عدالة الله وحكمته ورحمته وشفقته ولطفه وإحسانه ؟ وهل تليق هذه الأفعال بعظمة الحكيم الجليل ؟ كلا وحاشا.

     ولقد أولى ديننا الحنيف اهتماماً كبيراً بالإنسان، حيث نهى أن تداس القبور[4]. فالحق سبحانه الذي لم يسمح بدهس العظام في المقابر ولا التراب المضيف لهذا العظام، كيف يسمح بأجساد الحيوانات أن تحمل روح الإنسان ؟ وان الإنسان ليجيش غضباً عندما يقال له ((كلب)).

    فهل يسمح الحق سبحانه أن تدخل روح هذا الإنسان في جسد كلب ويربطه في باب ولده؟ وهل يسمح سبحانه بأن تدخل روح هذا الإنسان في جسد حمار ويحمل ابنه على ظهره ؟ وهل يُطلق على مَن يصدّق بهذه السفسطة الشنيعة بأنه (( إنسان ))؟

    ومن ثم فان دعوة التناسخ تخالف وعد الله سبحانه. لأن أوامر الله ونواهيه تقتضيان تحقق هذا الوعد. وبما انه سبحانه قد وعد المؤمنين بالجنة، فانه سيفي بوعده، وسيعاقب الأشرار والجاحدين لألوهيته، والكفار والمنافقين بعذاب خالد، والمنافقون دعاة التناسخ بعذاب أليم.    

    ومن ثم ان فكرة التناسخ لا تتوافق وإرسال الرسل والأنبياء _ عليهم السلام _ وإنزال الكتب السمأوية. فلو تُرِكت الأرواح سائبة وتائهة وحبلها على غاربها تتصرف في نفسها كيفما تشاء، لم تبق هناك حاجة إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب. لأن دعوة الأنبياء جميعاً بعد توحيد الله واثبات وجوده هي حياة الآخرة والحشر. وان الله تعالى أرسل رسله لتأمين كمال ورقي نوع الإنسان وصرف نظرهم إلى الحياة الخالدة. ولكن التناسخ يناقض تماماً هذه الحقائق.  

    ومن ثم فان القرآن الكريم يدحض فكرة التناسخ بتلقيننا : ان الإنسان هو أكرم المخلوقات وان السماوات والأرض والليل والنهار والحيوان النبات سُخّرت له. وانه عُيّن خليفة في الأرض وخُلِق في أحسن تقويم. وتسعى ملائكة لحفظه وأخرى تراقب أعماله.

    ويبين لنا القرآن الكريم أيضاً بأن للمؤمنين جنان سرمدية وللكافرين نيران خالدة.

    بعد إلقاء هذه النظرة القصيرة على تناقض فكرة التناسخ، سنحاول إيضاح الموضوع بشكل واسع:

 

  • تناقض التناسخ من جهة نظر المنطق والقانون:

    إذا كان التناسخ موجوداً وواقعاً، فينبغي أن يشمل كل فرد من الإنسان. وأن يتذكر هذا الإنسان جميع الأجساد التي عاش فيها والأعمال التي قام بها تلك الأجساد. فهذه الخرافة التي يروّج لها الملحدون ويصرون على ذلك، لا وزن لها من وجهة نظر المنطق والمحاكمة العقلية، ولا يصدقها المليارات من البشر ولا يعلمون عنها شيئاً ولا يعيشونها. إذن فما الغاية من تمكين هذه الخرافة في أذهان الناس؟ والحقيقة إن هذا الموضوع لجدير بالتأمل والاعتبار.

    ان الذين يعملون في هذا المجال هم ثلاث طوائف:

    الأولى: عدد من الأطفال.

    الثانية: علماء النفس.

    الثالثة: هم الكذابون الذين يؤمنون بأفكار مادية.

    وحتى يومنا هذا ادعى عدد من الأطفال بأنهم عاشوا في أجساد أخرى. والحال إن هؤلاء الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6-7 سنوات، لا وزن لأقوالهم في نظر العلم والقانون. لأنهم لم يبلغوا سن الرشد. فلا يمكن إثبات المسألة بأقوال هؤلاء الأطفال الذين يعيشون أيام طفولتهم وليست لديهم قابلية التمييز ليفرقوا بين الحقيقة والخيال. لأنهم تحت تأثيرات نفسية خارجية تجعلهم يشغلون الناس المحيطين بهم ويجلبون انتباههم إليهم وتشجيعهم إياهم.

    إذن لا وزن لأقوال الأطفال والتي هي ثمرة خيالهم وبعيدة عن الحقيقة من الناحية العلمية. ولاسيما أن عدد الذين أسندت إليهم هذه الفكرة حسب الإحصائيات لا يتجاوز خمسة أطفال. لذا فالدليل الذي استند إليه آهل فكرة التناسخ والحبل الذي تعلقوا به لإثبات دعواهم الباطلة ليس سوى هذيان هؤلاء الأطفال.

    أما الطائفة الثانية فهم علماء النفس. وان الموازنة العقلية لهؤلاء مختلة، وعباراتهم متناقضة. ومن الواضح إن الانشغال بعبارات هؤلاء الناس المرضى – المحتاجين للعلاج - ، والبحث فيها ليس سوى إضاعة الوقت عبثاً. وان أقوالهم مردودة وغير معتمدة حتى من جهة نظر القانون.

    وأما الطائفة الأخيرة فهم أشخاص يتحركون ويعملون باسم فكرة معينة ولقصد معين. وان غاية هؤلاء الأشخاص الماديين الذين يكفرون بالله وباليوم الآخر هي إفساد الأمة وتحطيم الميول السليمة في الفطرة نحو الدين الإسلامي وزعزعة عقيدة العوام مقابل منافع مالية ومادية وذلك باصطناع وقائع لا أساس لها. واستخدام عدد من المغفلين كشريط مسجل لتضليل أفكار العوام.

    الحاصل: لا يمكن إكساء ثوب الحقيقة على هذه الخرافة التي تستند على ادعاءات لا اصل لها لعدد من الأطفال أو جماعة من علماء النفس أو مجموعة من أشخاص غافلين.

 

- التناسخ تنافي قوانين الفطرة:

    نستطيع القول بان هناك قوانين كثيرة لا تعد ولا تحصى وضعت لتنظيم الكائنات ولدوام وبقاء الحياة. وبواسطة هذه القوانين تتحقق الموازنة والتناسب والإدارة والنظام بين الأشياء وان مبدع هذه القوانين الشاملة في الكائنات جميعا هو الله تعالى بديع السماوات والأرض.

    وان القوانين التي نشاهدها في جميع زوايا الكون أمثال التقدير والموازنة والرحمة والشفقة والربوبية والرزاقية والمالكية، تُرينا ان كل شيء في الكون من الذرات إلى المجرات لم يُخلَق عبثاً. وان الروح أيضاً لم تُترَك سدىً، وان هذه القوانين وغيرها تنافي فكرة التناسخ. ولنقف على ثلاثة من هذه القوانين باختصار:

    أولاً: التناسخ تنافي قانون التقدير والموازنة :

     ان كل شيء في الكائنات هو نتيجة خطة وبرنامج وتقدير وتعيين ومقياس وميزان. فكما ان قميصاً جميلاً يخبرنا عن علم الخياط وعن دقة قياسه وتقديره ومهارته، كذلك فان التوازن والنظام والانتظام الدقيق المشاهَد في كل شيء في الكائنات يخبرنا عن ((قانون التقدير والموازنة))، ويُرينا عدالة الله وعلمه وحكمته وإرادته. ولو أمعنا النظر في الكائنات نرى ان جمال الأشياء جميعاً وتناسبها وتوازنها ونظامها وجاذبيتها إنما نابع من قانون (( التقدير والموازنة )) لأن الجمال الموجود في الأشياء يستند إلى ميزان دقيق ومقياس حساس وإلى تقدير وتعيين ماهرَيْن وتناسب ونظام عاليين. لنوضح ذلك ببعض الأمثلة: هناك قسماً من القوانين يستفاد منه الإنسان في حياته. فتحويل الدهونات والمواد الغذائية في جسم الإنسان بعد تجزئتها إلى الطاقة إنما يكون ضمن موازنة تامة. وفي خلق الإنسان ذكراً أو أنثى يوجد ميزان وموازنة. وهناك توازن مستمر في الولادات والوفيات. وموازنة بين الأرض والشمس وان ظاهرتي المد والجزر تُرينا الموازنة الموجودة بين الأرض والقمر، وان تكاثر البكتريا النافعة والضارة هو ضمن موازنة. وكذلك تكاثر جميع الحيوانات إنما يكون ضمن الموازنة.

    إذن ان قانون الموازنة موجود في الكائنات وليس بمقدور أي شيء تجاوز حدود هذا القانون.    

    وان حركات الأرض وتبدل المواسم إنما يكون بهذا القانون، وان النظام الموجود في جميع الذرات يستند إلى قانون الموازنة. وان جميع طبقات السماوات والمجرات قائمة بهذا القانون  فكل هذا يُرينا بأن هذا القانون يحكم في جميع زوايا الكون.

    وان هذا القانون شامل وذو اتجاهات عديدة. فهناك في الكائنات موازنة فيزيائية وموازنة حياتية وموازنة الجسد والروح.

    فلنبدأ بالموازنة الحياتية: ان تجزئة المواد الغذائية والدهونات في أجسام ذوي الحياة وتحويلها إلى الطاقة إنما تكون ضمن موازنة تامة. وان ولادات الأحياء ومعيشتها وموتها إنما تشير إلى هذا القانون.

    أما الموازنة الفيزيائية : فجميع طبقات السماء وجميع المجرات قائمة بهذه الموازنة. وان جميع الموجودات من نظام الذرات إلى المنظومة الشمسية يدخل ضمن هذا القانون. وقد نظم البناء الفيزيائي لكل شيء وموازنته طبقاً لوظيفته. فمثلا ان البناء الفيزيائي للشمس والقمر يناسب وظيفة كل منها والتي تعتبر كالروح لها. فلا الشمس بمقدورها القيام بوظيفة القمر ولا القمر يستطيع أداء وظيفة الشمس.

    نستدل من هذا ان الكائنات من أقصاها إلى أقصاها قد قيست وفُصّلت بعلم الهي، ووضعت تحت مراقبته الحكيمة.

    وان قانون الموازنة موجود أيضاً بين روح الحيوان وجسده. وقد ألبس الصانع الحكيم لكل روح جسداً يناسب ماهيتها ومزاجها. فمثلاً ان جسد الغنم يناسب تماماً مع روحه الأليفة، وتخيلوا ماذا يحصل لو ألبِس هذا الغنم بجسد الأسد. في هذه الحالة فان روح الغنم تلك لن تكون مفترسة حتى وان حملت رأس أسد ومخالبه. وقس على ذلك جميع الحيوانات. فمثلًا تختلف روح الغزال عن روح الأسد، وروح السمك تختلف عن روح الطير وذلك من ناحية خلقتها ورغباتها. والخلاصة : ان الأرواح تختلف فيما بينها من ناحية الماهية اختلافاً كلياً.

    ونستدل كذلك بأن الله تعالى الذي خلق روح الإنسان بأحسن صورة وأكمل هيئة لن ينزلها من مرتبة أعلى عليين إلى دركة اسفل سافلين. وانه سبحانه لا يسمح بدخول روح الإنسان الذي يعيش في القصور إلى جسد الأرنب الذي يعيش في الثغور، أو إلى جسد ضفدع يعيش في المياه الآسنة، أو إلى جسد فأرة تطاردها القطط. فهذه الأحوال جميعاً تنافي قانون الموازنة المذكور آنفاً.

    ثانيا: التناسخ تنافي قانون الامتياز:

     ان الله تعالى يحفظ هوية كل مخلوق وشخصيته حفظاً دقيقاً. ويطلق على هذا الحفظ بقانون الامتياز. ومن المعلوم ان ماهية كل نوع في الكائنات مختلفة. فلا يمكن أن تتغلب ماهية مخلوق إلى ماهية مخلوق آخر. إذ من المحال أن تنقلب حقائق الأشياء إلى أضدادها، وتفقد خصائصها. فمثلاً ان صفات التفاح، لا تفارق التفاح ولا تنتزع منه. ولم نرَ في يوم من الأيام تحول التفاح إلى الكمثري أو إلى أي فاكهة أخرى. ويسري هذا القانون على النجوم والشموس والأنهار والجبال والبساتين. لان كل شيء في الكائنات فريد بشخصيته. فمثلاً لا يوجد على خارطة العالم سوى ( جبل همالايا) واحد وسوى (نهر نيل) واحد. وحتى البحار فإنها تحافظ على هويتها فلا يبغي بحر على آخر.

    وهذا القانون ساري المفعول في هذه الكائنات بحكمة وحساسية، وليست الأنواع فحسب، بل ان كل فرد فيها يتميز عن باقي الأفراد بصفاته الخاصة المعروفة لديها وبتجاعيد سيماه الخاصة وبخصائصها الفريدة.

    فمثلاً : ان كل فرد من أفراد البشر يختلف تماماً عن سائر بني جنسه من حيث ملامح سيمائه وصورة بنانه. وقد وضع هذا القانون لحفظ الحقوق العامة فيما بينهم. فلو كان جميع البشر حاملاً نفس السيماء والشكل والخاصية، لما عرف الناس بعضهم بعضاً ولضاعت الحقوق ولانقرضت الحياة.

    ومن المعلوم ان صفات الأشياء وخصائصها لا تنفصل عن ماهيتها. فمثلاً: كما ان بناء أجسام النحل والذباب يختلف بعضه عن البعض بصورة عامة. فانه يختلف أيضاً في تفرعاته. فمثلاً ان بناء أجنحة وأرجل النحل يختلف عن بناء أجنحة وأرجل الذباب لوجود علامات فارقة عديدة تميز هذه الكائنات بعضها من البعض. وكذلك أرواح الحيوانات واستعداداتها، فإنها تختلف بعضها عن بعض. فإذا كانت روح النحل تواقة إلى التلذذ بحدائق الأزهار، فان روح الذباب تجد لذتها في حفر المجاري. وبمنظار هذا المثال نستطيع مشاهدة الحيوانات الأخرى وقياسها. فلا يمكن انفصال الخصائص الذاتية لنوع من أنواع الحيوانات وانتقالها إلى نوع آخر. وتظهر هذه الحالة واضحة بين الإنسان وبين أنواع الحيوانات بدرجة اكبر. فمثلاً: لو فرضنا ان روح الإنسان دخلت في جسد حيوان، فينبغي لها أن تدخل فيه بإدراكها وتفكيرها وباستعداداتها كالخطابة والكتابة والفن وبجميع خصائصها. عندئذ يلزم ظهور فلاسفة ومفكرين وعلماء في الحيوانات. ولأصبحت لهذه الحيوانات مدنية خاصة، وثقافة وعلوم وآداب خاصة لها.

     فما دام ان هذا القانون يقضي بعدم وجود التناسخ بين الإنسان والحيوانات وبين أفراد الحيوانات نفسها، فانه ينفي وجوده بين أفراد البشر أيضاً. لان كل إنسان يختلف تماماً عن الآخر من بني جنسه بعلمه ومعرفته وبإيمانه واعتقاده، وبدرايته وذكائه، وبشفقته ورحمته وبحميته وشجاعته.

    فمثلاً : ان روح الإمام الغزالي- رحمه الله – تختلف تماماً عن الأرواح الأخرى بعلمها العالي وبوجدانها المقدس. فلو كان التناسخ ممكناً، لوجب مجيء ( نسخ كثيرة ) من الإمام الغزالي حتى يومنا هذا. وعدداً من ابن سينا وعدداً من أفلاطون. أما الحقيقة والصواب فإنها تكذّب هذا الادعاء.

    وان استمرار شخصية الإنسان وهويته في مراحل عمره الطويل وفي جميع وظائفه التي يعمل فيها بعد دراسته في المدارس وتخرجه منها، يظهر: أن سجل عمل الإنسان لا يفارقه حتى بعد موته. فيحاسَب في المحكمة الكبرى على أعماله جميعاً صغيرها وكبيرها قليلها وكثيرها. وان العدالة المطلقة للحق سبحانه ستتجلى في الحشر بأسطع صورها. والإنسان ليس المخلوق الوحيد الذي يُحشر ويُحاسب، بل ان جميع الحيوانات ستُحشر بهوياتها وتُحاسب. وهي حقيقة يقتضيها قانون الامتياز[5]. 

    ان الغاية العظمى لهذا القانون وحكمته الجليلة ونتيجته المهمة تتوجه إلى الآخرة، لذا فان كل فرد عند الميزان الأكبر يُحاسب على الخير والشر بتعبير الآية الكريمة :{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } (الزلزلة:7-8). ونتيجة هذا الحساب يصبح كل فرد من أهل الجنة مظهراً لألطاف مختلفة حسب إيمانه وتقواه وعمله الصالح، ويتعرض كل فرد من أهل النار لنوع من العذاب يناسب كفره وعصيانه. وان تحقق ظهور هذه الحقيقة العظمى يتوقف على احتفاظ كل فرد بهويته وشخصيته التي تخالف تماماً شخصيات وهويات الأفراد الأخرى.

 

ثالثا : التناسخ تنافي قانون الرزاقية :

    ان رزق كل نوع قد قُدّر وعُيّن حسب شخصية النوع وهويته وتقديره وقيمته. وان الله تعالى الذي وهب الإنسان أعلى مراتب الحياة المتضمنة للشعور والإدراك وقابلية النطق، قد بسط أمام هذا الإنسان العاجز موائد نِعَم ظريفة ولطيفة ومغذية وخاصة به تختلف عن نِعَم سائر المخلوقات نوعاً وكمّاً.

    فمثلا : عندما يكتفي الدجاج بأخذ العلف والذرة، فان الإنسان يتغذى على الدجاج والبيض. وعندما تأكل الشاة الأعشاب والأشواك، فان الإنسان يتناول الغنم ويشرب حليبه المغذي.

    وكما ان الإنسان ينفق مالاً كثيراً على مراسم يقيمها في حياته كالأفراح ، فان الرزاق الكريم الذي أولى اهتماماً كبيراً لهذا الإنسان لا يمكن البتة أن يأخذه من مائدته الإنسانية هذه ويُجلسه في جسد حيوان ويبسط أمامه مائدة حيوان. ولا تسمح بذلك حكمة الخالق ورحمته.

 

_ التناسخ تحقير لشرف وقيمة الإنسانية :

    خلق الله سبحانه الإنسان في أسمى ماهية واكمل جامعية وسخر له جميع النباتات والحيوانات.

    فمثلا : ان الأشجار بثمارها، والبقرة بحليبها والغنم بلحمه تسرع لإمداد هذا الإنسان، وتعمل لأجله. فهو زينة الكون وخليفة الأرض. وان جميع محتويات الكون قد رتب ونظم لأجل هذا الإنسان المكرّم. وان ما في هذا الكون من زينة وحشمة يُظهر شرف هذا الضيف الكريم ومقبوليته ووزنه عند الله تعالى. ومن المعلوم ان الإنسان خُلق لعبادة الله ومعرفته، لذا فقد جهزه العليم القدير باستعدادات جامعة وأجهزة ثمينة.

    نعم، ان لهذا الإنسان الذي حمل الأمانة الكبرى التي أبت السماوات والأرض من حملها، والذي هو ثمرة الكون ونتيجته، لابد من غاية عظيمة ومهمة بل اعظم من هذا الكون نفسه. وهذه الغاية هي _ كما ذكرت آنفا _ عبادة الله ومعرفته ومحبته ونيل رضاه. وبذلك ينال المكانة التي تليق بجنة الخلد ويعيش فيها حياة أبدية بجسده وروحه.

    وهكذا فان خرافة التناسخ تنافي ماهية الإنسان وحقيقته وقيمته. ومن المعلوم ان الحكيم الرحيم الذي وهب  للإنسان هذه المكانة السامية لا يمكن تذليل روحه وتحقيرها واستخفافها بإسقاطها إلى دركات سفلى، ولا يسمح لهذه الروح أن تدخل إلى جسد حيوان عاجز وهو مسخر له. فلا يُنزل _ سبحانه _ هذه الروح التي كالألماس إلى دركة الفحم.

 

_ سفسطة التناسخ تخالف امر الله وإرادته :

    ان تصرف الله سبحانه محيط بالكون. والإنسان _ كأي مخلوق _ ليس خارج نطاق هذا التصرف. فهو في تغير مستمر في كل زمان ومكان بأفكاره وميوله ورغباته. وهذا التغير يشمل الجسم أيضاً. أي ان هذا الجسم في تغير وتجديد مستمرين بدوران دمه وتجديد خلاياه. وإلى هذه الحقيقة التي ندركها ونعيشها إشارات بليغة في كتاب الله العزيز في قوله تعالي : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَـــــنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِـكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ }(المؤمنون:12-16 ).  

    فهذه الآيات الكريمة تبين لنا الأطوار والمراحل التي يمر بها الإنسان منذ نشأته الأولى إلى بعثه يوم القيامة والتي هي تحت تصرف الله تعالى. وفيها بيان لتسعة مراحل وأسرار تعود إلى خلق الإنسان :

1_ خلق سيدنا آدم عليه السلام من سلالة من طين وفي اكمل صورة ومن غير نطفة وذلك قبل إيجاد شكل وقالب البشر.

2_ بيان تصرف قدرة الله تعالى في خلق النطفة واســـتقرارها في رحم الأم ((فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ))لأجل بقاء نسل الإنسان ودوامه.

3_ توجيه الأنظار إلى الترقي والتربية في ماهية الإنسان في تحول النطفة إلى العلقة.

4- تحويل العلقة إلى المضغة.

5- خلق العظام وهي الأركان والأعمدة الأساسية التي تشكّل هيكل الجسد.

6- كسوة العظام باللحم. وفي هذه المرحلة توجيه العقول والوجدان إلى الجمال والحكمة الموجودين في تصرف الخالق سبحانه.

7_ وبذكره ((ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ )) يبين لنا سبحانه بعرضه أمام أنظارنا جميع الأجهزة المادية والمعنوية المتعلقة بالإنسان، بأنه خلق هذا الإنسان في احسن واكمل والطف تقويم وبذلك تم خلق الإنسان بطوله وقامته وإدراكه وحواسه ووجدانه وروحه وقلبه وصيّره صنعة خارقة واثر لطيف و(( فهرسته غرائب الأسماء الحسنى )) و(( مقياس لشؤون وصفات الله )) و (( ميزان لعوالم الكائنات)).

    والذات الأقدس الله جل جلاله الذي خلق هذا الإنسان بهذه الكيفية هو (( احسن الخالقين))، والإنسان هو احسن المخلوقات. فهل يعقل الإنسان الذي خلقه الله بهذه الفطرة السامية أن ينزل روحه إلى دركة الحيوانات ؟ ويقلّب هذا الجوهر النفيس إلى قطعة زجاج عادية؟.

8- بعد ذلك يذوق الإنسان طعم الموت بإرادة الله تعالى.

9- وأخياًر بعثه وإحياءه يوم القيامة.

    إن هذه المراحل التسع المذكورة في الآيات ترينا بان حياة الإنسان بجميع صفاتها ولحظاتها ليست خارجية عن تصرف الله وإرادته. وان حكمة الحاكم الحكيم اقتضت خلق الإنسان بهذه الدرجة الراقية لأجل حمله أمانات عظمى، وتكليفه بتكاليف عظيمة. وأن يكون مؤهلاً للسعادة الأبدية وذلك بإيمانه وأخلاقه وعمله الصالح.

    إذن فالخالق العليم لا يترك هذا الإنسان حبله على غاربه لا في دنياه ولا في أخرته. اجل فكما ان آيات عديدة في القرآن تبين قيام الساعة ومحاسبة الإنسان على أعماله، وان الدعوة المقدسة للأنبياء والرسل هي الإيمان بالله وباليوم الآخر، فما أهمية وساوس وأوهام أهل التناسخ إزاء هذه الحقائق الساطعة كالشمس ؟

 

_ خرافة التناسخ تخالف إرادة الإنسان :

إذا أخذنا التناسخ بعين الاعتبار وتناولناه كفكرة فإننا نواجه احتمالين :

الأول : إما أن يكون التناسخ بأمر الله وإرادته.   

والثاني : أو أن يحصل باختيار الروح ومشيئتها.

وقد أثبتت محالية الشق الأول في التفاصيل التي ذكرت آنفا.

أما الاحتمال الثاني : فهو انتهاج الروح مسلكين في انتقالها من جسد إلى آخر، فإما بشعور أو بدون شعور. فإذا كانت الروح بدون شعور فيعني ذلك أنها لا إرادة لها. لأن جميع حركاتها هي خارج العقل والإدراك. أما إذا كانت ذات شعور فان هذا الاحتمال يعني سفسطة مخجلة ومبنية على محالات غير نهائية. لأن ذلك يعني بان للروح قابلية الترجيح، وإذا كانت لديها هذه القابلية، فهي تمتلك شعوراً وبذلك تمتلك مزايا أمثال الاستحسان والانتقاء والتمييز. لأن الترجيح يستند على الشعور وعلى المحاكمة العقلية. ولما كانت الروح تمتلك شعوراً ومحاكمة عقلية فعندئذ لا ترجح الدخول في جسد أي حيوان. إذن من المحال دخول روح الإنسان إلى أجساد النباتات والحيوانات.

    ولنفرض ان الروح تنتقل بإرادتها إلى جسد الحيوانات، فعندئذ تواجهنا معضلات لا يمكن حلها فمثلاً : تقتضي هذه الفرضية أن تدخل الروح في جميع الحيوانات دون توقف أو ملل وحتى إنها تدخل من رحم هذه الحيوانات دون خجل. وبتعبير أدق، ان هذه الفرضية تفتح باباً إلى السفسطة كدخول الأرواح إلى نطف وبيوض الحيوانات جميعاً والتي تعيش في البر والبحر والجو. أو أنها تتواجد مع الكروموسومات والجينات وفي كل آن.

    وهذا النهج الباطل والمحال والبعيد عن العقل لا تقبله حتى الحيوانات، وليس الإنسان وحده فحسب.

    وهناك محال آخر يرد إلى الذهن وهو : لو افترض أن الروح اختارت أباً وأماً. فينبغي لها أن تكون حاضرة عند اجتماعهما في الفراش. ترى أين يكون مكان انتظار هذه الروح عندئذ ؟

    وسواء كان الانتظار في الخارج أو في الداخل، فان محالات عديدة ستظهر منها : ان الروح ينبغي لها أن تقيم معاهدة اتفاق مع الجينات الذكرية والأنثوية المجتمعة في الأعضاء التناسلية، ومع الرحم ومع الشهوة التي تساعد على التلقيح والطاقة التي تولد هذه الشهوة، والجسد الذي يتولد الطاقة ومع المواد التي تغذي الجسم، وباختصار شديد ينبغي للروح القيام باتفاق مع جميع الكائنات. وهذه من المحلات الواضحة. وبذلك تنحصر عمل الجينات الذكرية والأنثوية ضمن قانون الشهوة. والحال ان هذا القانون كلي وشامل لجميع طبقات الحياة. فمن البلاهة، بل هو عين إنكار وجود الله أن يسند هذا القانون الإلهي إلى روح الإنسان العاجز وإلى إرادة الجينات الذكرية والأنثوية ووضعه تحت أمرتها. فضلاً عن ظهور تساؤلات ومحالات لا تعد في الموضوع.

    ومن الحقائق المعلومة، ان نمو الجسد في الرحم مرتبط مع قانون النشوء والنماء. وبما انه يوجد انتظاماً كاملاً في الجسد فينبغي ذلك وجوب وجود علم وقدرة وإرادة لانهائية لبناءه. ومن الهذيان إسناد خطط وبرامج هذا الجسد المخلوق في غاية الاهتمام والانتظام ومطرز بِحَكم دقيقة، إلى روح جاهلة وعاجزة. وإذا ما أخذت بهذه السفسطة فما يكون الرد على هذه التساؤلات ؟: لنفترض ان الروح وجدت نطفة الحيوان الذي ترغبه، فهل هي التي تقرر ظهور الذكر أو الأنثى من هذه النطفة أو تفعل ذلك نتيجة فحص تقوم به في أي مختبر كان ؟ وهل هي التي تسوق الحيوانات المنوية لتصبح ذكراً أو أنثي ؟. أو تدخل تارة في جسد حيوان ذكر وتارة أخرى في جسد حيوان أنثى ؟ عندئذ هل تعيش هذه الروح ذكراً حيناً من الزمن وأنثى حيناً آخر ؟  أو ان هذه الروح تدخل جسد حيوان ذكر إن كانت ذكراً وتدخل جسد حيوان أنثى إن كانت أنثى؟ ولماذا لا تتذكر ماهيتها ولا تتذكر الأجساد التي دخلتها وعاشت فيها كذكر أو أنثى عند مجيئها إلى الحياة؟ ولم يتذكرها المليارات من الناس، ويتذكرها أطفال لا يتجاوز عددهم الخمسة أو يتذكرها مجاذيب علم النفس؟.

   وإذا ما تخاصم اكثر من روح واحدة على رحم واحد، فما هو الحل لفصل نزاعهم ؟ وهل الحل بواسطة الاقتراع، أم بواسطة الجدال أو الاقتناع ؟.

    ومن ثم بأي صفة تدخل الروح إلى جسد الحيوان ؟

    نستنتج مما سبق، ان خرافة التناسخ باطلة وسفسطة من وجهة نظر المنطق والمحاكمة العقلية والحكمة والحقيقة والحق والقانون والعقل والوجدان. وقد لوحظ أيضاً في ضوء هذه الإيضاحات بأن دعوى التناسخ تنافي نواميس الكون. وان كل قانون من قوانين الكون يصرخ بلسان الحكمة والحقيقة بطلان هذه الخرافة. ومن ناحية أخرى فان دعوى التناسخ هي استهزاء وجناية عظيمة تجاه الحكيم المطلق وعدالته ورحمته وعنايته.

    والآن نتأمل : ترى هل توجد دعوة غير هذه الدعوة تفوقها في الخرافة والبطلان ؟ وإذا لم تكن هذه الدعوة دعوة رجعية وعصبية غليظة، فما تكون إذن ؟!

 

_ التناسخ تخالف علاقة الروح والجسد :

    لنطرح أمام دعاة التناسخ هذا التساؤل : ان كل بيت يُرّتب ويُنظّم حسب ساكنه ووزنه وقامته. فالقصر يبنى للسلطان والقفص يصنع لطيور الكناري. وان هذه العلاقة توجد بأكمل صورها بين الروح والجسد. فالحكيم المطلق - سبحانه _ خلق جسد الغنم مطابقاً لروحه الأليفة، وخلق جسد الأسد مطابقاً لروحه الخشنة. وان الدلائل التي تثبت ذلك كثيرة بعدد أنواع المخلوقات بل بعدد أفرادها.

    وان الرحيم ذا الكمال قد البس لروح الإنسان _ التي خلقها مرشحة للسعادة وزينها وجهزها بالعقل والقوة الحافظة والخيال وبحواس ظاهرية وباطنية _ جسداً مناسباً للقيام بوظائف راقية أمثال التفكر والعبادة والشكر. ومن المعلوم  ان خاصية أي ماهية لا تنفصل عنها ولا تفارقها. وبناءً على هذه الحقيقة ؛ لو افترض ان روح الإنسان دخل جسد حيوان، فان هذه الروح تطلب الاستمرار في تفكيرها وتأملاتها والتعبير عما تدركها وترغب في عرض وتشهير معرفتها أمام الأنظار. وعندما لا يليق هذا الجسد ولا يناسب هذه الوظائف فان الروح لا تستطيع إدامة حياتها فيه وحتى ان الروح التي تعيش أحياناً في ضجر وضيق في بعض أجساد الإنسان، لاشك أنها لا تستطيع العيش في أجساد الحيوانات.

    لذا فان المتشبثين بفكرة التناسخ يرون الروح التي هي ضيف كريم فارقت الجسد بعد إنهاء وظيفتها في الدنيا، بأنها تارة تدخل القفص وتخاف الناس، وتارة تحل في جسد الأسد فتهاجم الغزال، وأخرى ترسلها إلى جسد الضفادع لتعيش في الماء وبهذا يضعون أمام هذا الضيف اللطيف أحياناً الرمل وأحياناً جسد حيوان ميت، وأخرى علفاً، وبذلك يخالفون الحكمة والحقيقة بعصيانهم هذا. وأحياناً يُدخلون هذا الضيف الذي يتناول الدجاج في حياته إلى جسد دجاج ليكون بعد ذلك طعاماً للإنسان أو فريسة للثعالب.

    وان أهل التناسخ عندما يدخلون روح الصراصر التي تخشى من كل صوت وتقتات على الفضلات في الخلاء، إلى جسد نمر فإنها تصبح شجاعة ومفتونة بلحم الغزال. وكذلك يجعلون الروح الواحدة تدخل إلى أجساد عديدة في يوم واحد. فمثلاً تدخل هذه الروح إلى جسد الغنم صباحاً، وتنتقل إلى جسد ثور في المساء، وبعدها تنتقل إلى جسد البقر لتعيش قليلًا وتنتقل إلى جسد القرد في الليل وترقد فيه.

   ويرى أهل التناسخ، ان النمر الذي يهاجم الغزال ربما كان غزالاً بالأمس. أو ان أحد أفراد أهل التناسخ الذي يهمس بهذه السفسطة ربما كان ثعبان بالأمس.

    فحذاري.. حذاري من أفكار أهل التناسخ المسمومة، لأنها ربما هي من مخلفات طور الثعبان الذي عاشوا فيه ؟!..

    الحاصل، ان النظام والتطابق والموازنة المكملة الموجودة بين الأجساد والأرواح، ترينا ان الله الذي خلق روح الإنسان وجعلها مركزاً للكون ومتحضرة منذ أن خلقها، وشرح صدرها بالعلم والمعرفة وخليفة في الأرض وقائداً على قافلة المخلوقات، لا يرضى أن يجعلها حقيرة وذليلة بإدخالها بعد موت الإنسان في أجساد الحيوانات والنباتات والمعادن.(*)

 

___________________

(1) التناسخ : عبارة عن تعلق الروح بالبدن بعد المفارقة من بدن آخر، من غير تخلل زمان بين التعلقين، للتعشق الذاتي بين الروح والجسد.

 ( التعريفات للجرجاني )

(2) فيثاغورس : (582 – 507 ق . م ) فيلسوف يوناني ولد في ساموس . أسس جماعة دينية في كروتونا كانت تؤمن يتناسخ الأرواح . وضرورة الحياة المطهرة من الشهوة .

( الموسوعة العربية الميسرة 2/1342 )

(3) الطوطمية : طوطم : حيوان يرتبط باسم العشيرة عند الشعوب البدائية وبخاصة أهالي استراليا الأصليين . ويعتبر لحمه محرماً على أفرادها الذين يعتقدون انهم انحدروا منه ، ويحملون لذلك اسمه (مثل عشيرة القنغر ) ولذلك فانه يجب عليهم القيام نحوه بشعائر وطقوس معينة في مواسم خاصة . وبعض العشائر تتخذ طوطمها من النباتات أو من الكائنات المادية أو حتى (وهو نادر) من الظاهرات الطبيعية . ويحرم النظام الطوطمي قيام صلات جنسية بين أفراد الطوطم الواحد لانهم اخوة وأخوات لانحدارهم من طوطم واحد . ولذا كان الزواج الداخلي محرماً . وينتشر النظام الطوطمي في استراليا  وميلانيزيا وشمال أمريكا ، ولا توجد نظرية واحدة مقبولة تماما عن اصل هذا النظام . (الموسوعة العربية الميسرة 2/1166)

(4) في حديث رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ .

(5) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقُ إلى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى تُقَادَ الشَّاةُ الْجَلْحَاءُ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ .

(*) ما هي الروح ؟ تأليف الأستاذ محمد قرقنجي - ترجمة سامي سليمان عارف

 

 

قرئت 213 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد