الخاطرة الأخيرة

 

الخاطرة الأخيرة

يقول عبد المجيد شقيق الأستاذ:

 بعد مرور خمسة أشهر على وفاة شقيقي استُدعيت إلى ديوان الوالي في "قونيا". شاهدت هناك ثلاثة جنرالات معه(1)، خاطبني أحدهم:

لا يخفى عليكم أننا نعيش ظروفاً حرجة، فالزوار من الولايات إلى قبر شقيقكم يزدادون يوماً بعد يوم، فنحن نريد أن ننقل رفاته -بمعاونتكم- إلى أواسط الأناضول. فنرجو توقيع هذا الطلب. ومدوا إليّ بورقة طلب باسمي، قلت بعد قراءتها: ولكني لم أطلب هذا... أرجوكم دعوه ليرتاح في الأقل في قبره! أصروا على موقفهم وقالوا: "لامناص من الأمر".

توجهنا -بعد توقيع الطلب- إلى المطار فأقلتنا طائرة عسكرية إلى أورفة، وفي الثالثة ليلاً ذهبنا إلى المقبرة... كان هناك تابوتان في صحن الجامع مع بعض الجنود. اقترب الطبيب العسكري مني قائلاً: "لا تقلق سننقل الأستاذ إلى الأناضول".

وعلى إثر هذا الكلام أجهشت بالبكاء فلم أتمالك نفسي. أمر الطبيب الجنود بهدم القبر. فكانوا يترددون ويخشون سخط اللّٰه عليهم.

فقال الطبيب: نحن مأمورون وليس أمامنا سوى التنفيذ، فقاموا بهدم القبر وإخراج التابوت منه. وعندما فتحوا التابوت. قلت في نفسي: لا بد أن عظام أخي الحبيب قد أصبحت رماداً. ولكن ما إن لمست الكفن حتى خيل لي أنه قد توفي أمس. كان الكفن سليماً إلا أنه مصفر قليلاً من جهة الرأس. وكانت هناك بقعة واحدة على شكل قطرة ماء. وعندما كشف الطبيب عن وجهه، نظرت إليه وإذا عليه شبه ابتسامة. احتضنا ذلك الأستاذ العظيم ووضعناه في التابوت الآخر. وأخذناه إلى المطار. كانت الشوارع خالية من الأهلين ومليئة بالجنود المدججين بالسلاح، حيث أعلن منع التجول في المدينة. جلست بجانب التابوت في الطائرة والحزن والأسى يملآن قلبي، والدموع تملأ عينيّ. اتجهت الطائرة إلى أفيون، ومنها نقل التــابوت بسيارة إسعاف إلى إســـبارطة حيث دفـــن في مكان لا يزال مجهولاً». (2)

رحمه اللّٰه رحمة واســـعة وأســـكنه فســيح جناته.

[ ولعل هذا استجابة القدرالإلهي لما تمناه الأستاذ وأوصى طلابه بألّا يُعرف موضع قبره إلّا واحد أو إثنان منهم . ولما سألوه عن الحكمة في منعه زيارة قبره مع ما فيها من كسب للثواب أجابهم بالآتي :

إن الغفلة الناشئة من الأنانية وحب الذات في هذا العصر العصيب تدفع الناس إلى أن يولوا اهتمامهم إلى مقام الميت وشهرته الدنيوية في أثناء زيارتهم القبور، مثلما عمل الفراعنة في الزمن الغابر على تحنيط موتاهم ونصب التماثيل لهم ونشر صورهم رغبة في توجيه الأنظار إليهم، فتوجهت الأنظار إلى المعنى الاسمي -أي لذات الشخص- دون المعنى الحرفي -أي لغيره-.. وهكذا فإن قسماً من أهل الدنيا في الوقت الحاضر يولون توجههم إلى شخص الميت نفسه وإلى مقامه ومنـزلته الدنيوية بدلاً من الزيارة المشروعة لكسب رضاء اللّه ونيل الثواب الأخروي كما كانت في السابق.

لذا أُوصي بعدم إعلام موضع قبري حفاظا على سر الإخلاص ولئلا أجرح الإخلاص الذي في رسائل النور. فأينما كان الشخص سواء في الشرق أو الغرب وأيا كان فإن ما يقرأه من "الفاتحة" تبلغ إلى تلك الروح. (3)

ومما يلفت النظر أن ما كتبه الأستاذ النورسي في مستهل مؤلّفه "لمعات" "اللوامع" المطبوع في سنة1921 فيه إشارة إلى سنة وفاته وتهدّم قبره. إلاّ أن أحداً لم ينتبه إليها إلا بعد وفاته. وهذا أمر جار لدى كثير من العلماء العاملين والأولياء الصالحين وليس علماً بالغيب كما لا يخفى إذ هو إعلام من اللّٰه لهم بإشارات خفية ورموز دقيقة. ندرج ذلك في أدناه:] (*)

_______________

(1) حيث وقع انقلاب عسكري في 27/5/1960 أطاح بالحزب الديمقراطي وسيق أعضاء الحكومة إلى المحكمة التي أطلق عليها اسم "محكمة الدستور" وانتهت هذه المحكمة بتنفيذ حكم الإعدام برئيس الوزراء "عدنان مندرس" وعلى اثنين من وزرائه وبمدد مختلفة للوزراء وللمسؤولين السابقين في حكومة الحزب الديمقراطي. كما أبدوا عداء لجميع التيارات والحركات الإسلامية في تركيا ومنها حركة "طلاب النور".

وكأن حقد أعداء الإسلام وغيظهم على الأستاذ سعيد النورسي لم ينته حتى بعد وفاته فأرادوا الانتقام منه وهو في القبر، فقاموا بنقل رفات هذا العالم الجليل إلى جهة مجهولة.

(2) ش/437.

(3) ملحق أميرداغ/2 (بالتركية).

(*) كليات رسائل النور- سيرة ذاتية ص:486

 

قرئت 4 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد