الطريق إلى اليقين عند النورسي

الطريق إلى اليقين عند النورسي

د: عائشة الهلالي

أستاذة الحديث والتفسير

بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.

الحضور الكريم : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نجتمع اليوم في ضيافة تغني فيها القرائح عن البطون، ونرحب بمن قطعوا إلينا كيلومترات وكيلومترات وجاءوا تطبيقا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما يسر الله له به طريقا إلى الجنة) ، فنسأل الله أن ييسر لإخواننا القادمين من بعيد : الطريق إلى الجنة، ونسأله كذلك أن يجعلنا من أهل الجنة آمين.

اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، اللهم اجعل في أبصارنا نورا واجعل في أسماعنا نورا واجعل عن أيماننا نورا واجعل عن شمائلنا نورا ومن خلفنا نورا واعظم لنا نورا واجعل لنا نورا يارب العالمين.

انطلق الأستاذ رحمه الله من يقينيات القرآن الكريم، ليحدثنا عن موضوع اليقين ولا شك أن موضوع اليقين من القضايا الأساسية، ويكفي لذلك أن نعرف قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : ( اليقين : الإيمان كله) . "وإذا تزاوج اليقين بالصبر أعطى الإمامة في الدين." وقد جمع النورسي رحمه الله بين اليقين وبين الصبر فكانت له الإمامة في الدين. إذا رجعنا إلى القرآن الكريم سنجد بأن كلمة اليقين وردت في خمسة أوجه : وجه التصديق، ووجه الموت، ووجه العيان، ووجه العلم اليقين، ووجه الصدق.

أريد -إن شاء الله تعالى- أن انطلق من : قول ابن مسعود رضي الله عنه ومن هذه الوجوه القرآنية الخمسة لأنظر إلى جهود الأستاذ سعيد النورسي - رحمه الله - لأعرف جهوده في موضوع اليقين.

لاشك أن هذه الجهود التي بذلها الأستاذ في كليات رسائل النور،كانت جهودا مهمة جدا، حيث أنها بلغت عنده حد اليقين، وقد اختبرها في بناء نفسه وإقامة كيانه المنقض، قبل اختبار فاعليتها على مسح جرحات روحه وزرق انشقاقات وجدانه.

من أبرز القضايا التي وردت في كليات رسائل النور : قضية الإيمان وقضاياه الغيبية بعد الموت، وخصوصا منزلة اليقين.

وإذا رجعنا إلى ابن القيم رحمه الله نجده : يصف اليقين بأنه روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا، وانتفى عنه كل شك وريب وسخط وهم وغم، فامتلأ محبة الله وخوفا منه ورضا به وشكرا وتوكلا إليه وإنابة عليه، فهو مادة مقامات السائر في طريق الله سبحانه وتعالى والحامد له.

في هذه الكلمة القصيرة أحاول أن اقدم اليقين والطريق إليه من خلال رسائل النور، ولكن ما ان عزمت على انتخاب أهم ما يمكن أن يقال فوجئت بكثرة القضايا الداخلة في هذا الموضوع، فصار حالي مثل حال الرجل الذي خرج للصيد فخرج عليه الظباء من اليمين ومن اليسار ومن الأمام ومن الخلف فقال : تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يعيد ولكن ما لا يدرك كله لايترك جله.

أقول وبالله التوفيق :

أولا نقف عند مصطلح اليقين فنجد بأن اليقين عند النورسي هو الإيمان التحقيقي وليس الإيمان التقليدي الذي لايثبت للشبهات والأوهام، أما الإيمان التحقيقي فهو أوسع مدى وأشمل وأمتن.

- مراتب اليقين عند النورسي:

مراتب اليقين عند النورسي كثيرة جدا وأبرزها:

1 - مرتبة علم اليقين : وهي مرتبة تقاوم الشبهات المهاجمة بقوة ما فيها من براهين.

2 - مرتبة عين اليقين : وتضم مراتب كثيرة جدا، بل لها مظاهر بعدد الأسماء الإلهية حتى تجعل الكون يتلو آيات الله.

3 - مرتبة حق اليقين : وهي مرتبة لها مراتب كثيرة جدا وصاحب هذه المرتبة هو صاحب الإيمان الذي لاتنال منه جيوش الشبهات إذا هاجمته.

بعد أن عرفنا مراتب اليقين، ماهي الطريق إلى اليقين التي يصفها لنا الأستاذ رحمه الله؟

يقول الأستاذ سعيد : "للوصول إلى الله سبحانه طرائق كثيرة وسبل عديدة ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم". لاشك أن الطرق كثيرة لكن المورد والمنهل هو القرآن الكريم، "إلا أن بعض هذه الطرق أقرب من بعض وأسلم وأعم". يقول الأستاذ النورسي : "ولقد استفدت من فيض القرآن الكريم بالرغم من فهمي القاصر طريقا قصيرا وسبيلا سويا.." سأذكر الآن هذا الطريق الذي ذكره الأستاذ.

طريق العجز، طريق الفقر’ طريق الشفقة، طريق التفكر، يقول الأستاذ : "نعم، إن العجز كالعشق طريق موصل إلى الله بل اقرب وأسلم إذ هو يوصل إلى المحبوبية بطريق العبودية، والفقر مثله يوصل إلى اسم الله " الرحمان" وكذلك الشفقة كالعشق موصلة إلى الله إلا أنها أنفذ منه في السير وأوسع مدى إذ هي توصل إلى إسم الله "الرحيم"، والتفكر ايضا كالعشق إلا أنه أغنى منه وأسطع نورا وأرجى سبيلا إذ هو يوصل السالك إلى اسم الله الحكيم"، ويصف الأستاذ النورسي هذا الطريق ذي الخطوات الأربع "بأنه حقيقة شرعية أكثر مما هو طريقة صوفية"  فلا يقصد بالعجز والفقر: إظهاره أمام الناس، وإنما هو إظهار ذلك أمام الله سبحانه وتعالى. فالفقر هنا الإفتقار إلى الله سبحانه وتعالى وليس الإفتقار إلى الناس." أما أوراد هذا الطريق وأذكاره"  يقول الأستاذ رحمه الله :" فتنحصر في اتباع السنة النبوية والعمل بالفرائض ولاسيما إقامة الصلاة باعتدال الأركان والعمل بالأذكار عقبها وترك الكبائر " أما منابع هذه الخطوات من القرآن الكريم (كل خطوة من هذه الخطوات يأتي لها بمنبع لأنه في البداية قال : مورد ومنهل كأننا أمام منبع من الماء إذن سيعطينا منابع هذه الخطوات التي تحدث عنها في القرآن الكريم : ومع الأسف الشديد، لايسمح الوقت، لكي أذكر تفصيل هذه المنابع، ولكن سأذكر الآيات الكريمة التي أحال عليها الأستاذ رحمه الله :

"قوله تعالى ( فلا تزكوا أنفسكم) تشير إلى خطوة العجز، العجز أمام الله تعالى. (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) تشير إلى خطوة والفقر، الإفتقار إلى الله سبحانه ( ماأصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) تشير إلى خطوة الشفقة ( كل شيء هالك إلا وجهه). تشير إلى خطوة التفكر".(1)

يقول الأستاذ النورسي في مكان آخر من هذه الخطوة، خطوة التفكر وهي طريق موصل إلى الله سبحانه وتعالى : "التفكر نور يذيب الغفلة الباردة، والدقة نار تحرق الأوهام المظلمة اليابسة". ونجد كلمة الأوهام وهي كلمة لها علاقة بالجهل، والجهل: نقيض اليقين، لأن اليقين علم، والجهل نقيض العلم، والوهم : نوع من أنواع الجهل، فيقول الأستاذ : " والدقة نار تحرق الأوهام المظلمة اليابسة، لكن إذا تفكرت في نفسك فدقق وتمهل وتغلغل "، يعطينا توجيها في التفكر فهناك التفكر في النفس وهناك التفكر في الآفاق،" إذا تفكرت في نفسك فدقق وتمهل وتغلغل وفصله تفصيلا بمقتضى الإسم - يقصد اسم الله سبحانه وتعالى- "الباطن" المتعمق إذ كمال الصنعة أتم في تحليله وتفصيله، وإذا تفكرت في الآفاق فاجمل وأسرع ولا تغص و لا تخض إلا لحاجة إيضاح القاعدة ولا تحدد النظر كما هو مقتضى الإسم "الظاهر".(2)

بعد أن تحدثت عن هذه الطريق ذات الخطوات الأربع للوصول إلى الله تعالى، ماهي ثمرات هذا اليقين يقول الأستاذ رحمه الله : في ثمرة من ثمرات اليقين-لأن اليقين له ثمرات متعددة فله ثمرة التوكل وله ثمرة الصبر وله ثمرة الشوق إلى الله تعالى وله ثمار متعددة - الشوق ثمرة من ثمرات اليقين، يحذر النورسي رحمه الله طلابه من جملة عوائق تسقط المؤمن من أعلى جواد الشوق الذي تمتطيه الهمة ويقدم علاجا قرآنيا لهذه الآفات النفسية الحائلة دون السير إلى الله تعالى، لاشك أن الإنسان في بداية سيره إلى الله يحذوه الشوق ولكن بمجرد أن يركب المطية تأتي مجموعة من العوائق، تأتي مجموعــة من الآفـات، تأتي مجموعة من الأخطار، يقول الأستاذ رحمه الله ويسرد لتلاميذته ولنا جميعا، الآفات التي تسقطنا من فوق الجواد الذي نركبه اتجاها إلى الله سبحانه وتعالى : "أولا اليأس وعلاجه قوله تعالى : (لاتقنطوا) .. حب الظهور ونيل التفوق وعلاجه قوله تعالى ( كونوا قوامين) .. الإستعجال وعلاجه قوله تعالى (اصبروا وصابروا ورابطوا) ..الرأي الشخصي المستبد والتفكير الإنفرادي الذي يبدد أعمال الإنسان وعلاجه الحديث الشريف : "خير الناس أنفعهم للناس" ..التقليد : كذلك من الآفات علاجه ( وعلى الله فليتوكل المومنون) .. التسويف وهو العدو الغدار، التسويف الناجم من العجز وفقدان الثقة بالنفس فينشأ منه تأجيل الأعمال الأخروية من اليوم إلى الغد يمسك يد الهمة. أما تحدي هذه المصيبة التي تصيبنا وهي من جنود إبليس وعلاجه ( لايضركم من ضل إذا اهتديتم) .. أما العدو الملحد الذي يحذرنا منه النورسي رحمه الله وهو التدخل فيما هو موكول أمره إلى الله. فيقول لتلاميذته: أرسلوا عليه الآية الكريمة (فاستقم كما أمرت) .. أخيرا الآفة الخطيرة  حب الراحة والدعة الذي هو أم المصائب ووكر الرذائل فيصفد الهمة بسلاسله وأغلاله ويقعدها عن طلب معالي الأمور ويقذفها في هاوية السفالة والذلة فعليكم أن تخرجوا على ذلك السفاح - يقول لتلامذته- : عليكم أن تخرجو على ذلك السفاح الساحر ويقصد به حب الراحة والدعة أخرجوا له البطل المجاهد الآية الكريمة   ( وأن ليس للإنسان إلا ماسعى) ولننظر إلى تسمية الآية الكريمة باسم البطل المجاهد .(3)

في مكان آخر نجد الأستاذ النورسي -رحمه الله- يحذر  تلامذته من أمراض نفسية خطيرة منها -حرص النفس -العجز- الحسد- فهذه أمراض خطيرة تتخفى على الإنسان في أثواب كثيرة لتقضي على المرء وعلى يقينه يقول الأستاذ النورسي : " إن في الحرص والإسراف عقوبة معنوية معجلة وجزاءا قلبيا إذ يجعل صاحبه ثملا من كثرة الشكوى والقلق فترى العقوبة نفسها بل أشد منها في الحسد والتنافس والغيرة حتى أن الحسد يحرق

صاحبه قبل غيره".(4)

كيف نحافظ على اليقين : ذكر الأستاذ مجموعة من العقبات وذكر مجموعة من الآيات لمواجهة هذه العقبات ولكن أسمى طريق وأحكم طريق للمحافظة على اليقين، وهو اليقين نفسه، الذي قال عنه سبحانه وتعالى ( واعبد ربك حتى ياتيك اليقين) اليقين هنا هو الموت ولذلك اعتمد الأستاذ رحمه الله على الموت : لاكتساب اليقين وللمحافظة على اليقين، وللقضاء على نظر الغفلة وتعويضه بالنظر الراشد.

يقول النورسي لنفسه، وهو يخاطب نفسه : "لا تديرن رأسك جفلة من الموت خائفة من القبر بل حذقي في القبر وانظري إلى حفرته بشهامة واستمعي إلى ما يطلب، وابتسمي لوجه الموت برجولة وانظري ماذا يريد وإياك أن تغفلي، لاتقولي أبدا أن الزمن قد تغير وأن العصر قد تبدل وأن الناس قد انغمسوا في الدنيا وافتتنوا بحياتها فهم سكارى بهموم العيش، ذلك لأن الموت لايتغير" (5) ولذلك يقول الأستاذ لتلاميذته موجها إياهم للأخذ بالأسباب والتوكل على الله : " إن وظيفتنا العمل للإيمان والقرآن بإخلاص أما إحراز التوفيق وحمل الناس على القبول ودفع المعارضين فهو مما يتولاه الله سبحانه، نحن لا نتدخل فيما هو موكول إلى الله حتى إذا غُلبنا فلا يؤثر هذا في قوانا المعنوية وخدماتنا."

 هناك نصوص جميلة أخرى، فنحن نعرف أن الأستاذ سعيد قطع مرحلتين من حياته مرحلة سعيد القديم ومرحلة سعيد الجديد، فلننظر إليه: لما ذهب في يوم من الأيام إلى قمة قلعة أنقرة :" التي أصابها الكبر والبلى أكثر مني فتمثلت تلك القلعة أمامي كأنها حوادث تاريخية متحجرة واعتراني حزن شديد وأسى عميق - انظروا إلى الشيخوخة التي يصفها (- من "شيب السنة " - السنة فيها شيب - في موسم الخريف ومن شيبي أنا ومن هرم القلعة ومن هرم البشرية ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية ومن وفاة سلطنة الخلافة ومن شيخوخة الدنيا، فاضطرتني تلك الحالة للنظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة إلى أودية الماضي وشواهق المستقبل أنقب عن نور وأبحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحس به من أكنف الظلمات اللاتي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم المتداخل المحيط.

فحينما نظرت إلى اليمين الذي هو الماضي باحثا عن نور ورجاء بدت لي تلك الجهة من بعيد على هيأة مقبرة كبرى لأبي وأجدادي والنوع الإنساني فأوحشتني بدلا من أن تسليني، ثم نظرت إلى اليسار الذي هو المستقبل مفتشا عن الدواء فتراءئ لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي و لأمثالي...

يئست من هذه الجهة أيضا، رفعت رأسي ونظرت إلى قمة شجرة عمري فرأيت أن على تلك الشجرة ثمرة واحدة فقط وهي تنظر إلى، تلك هي جنازتي فطأطأت رأسي ناظرا إلى جذور شجرة عمري فرأيت أن التراب الذي هناك ماهو إلا رميم عظامي وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معا وامتزجا وهما يداسان تحت الأقدام فأضاف إلى دائي داء من دون أن يمنحاني دواء ثم حولت نظري على مضض إلى ما ورائي فرأيت أن هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في دنيا العبث وتنحدر في ظلمات العدم فسكبت هذه النظرة السم على جروحي بدلا من أن تواسيها بالمرهم والعلاج الشافي ولما لم أجد في تلك الجهة خيرا ولا أملا وليت وجهي شطر الأمام ورنوت بنظري بعيدا فرأيت أن القبر واقف لي بالمرصاد على قارعة الطريق فاغرا فاه يحدق بي وخلفه الصراط الممتد إلى حين الأبد وتترائى القوافل البشرية السائرة على ذلك الصراط من بعيد وليس لي من نقطة استناد امام هذه المصائب المدهشة التي تأتيني من الجهات الست، ولاأملك سلاحا يدفع عني غير جزء ضئيل من الإرادة الجزئية فليس لي إذن أمام أولئك الأعداء الذين لاحصر لهم والأشياء المضرة غير المحصورة سوى السلاح الإنساني الوحيد وهو الجزء الإختياري..." (6)

النص طويل ولكن في الأخير نلاحظ بأن الأستاذ غيّر هذه النظرة من نظرة الحزن إلى نظرة التفاؤل حيث نظر إلى الموت نظرة حقيقية، كان يعيش هذا الإضطراب لما نظر إلى هذه الجهات الست التي ذكرتها :" تتوالى علي منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة إذ بأنوار الإيمان المتألقة في وجه القرآن المعجز البيان تمدني وتضيئ تلك الجهات الست وتنورها بأنوار باهرة ساطعة مالو تضاعف ما انتابني من صنوف الوحشة وانواع الظلمات مائة مرة لكانت تلك الأنوار كافية ووافية لإحاطتها. فماذا وقع بعد ذلك الحزن وتلك الوحشة فبدلت تلك الأنوار السلسة الطويلة من الوحشة إلى سلوان ورجاء وحولت كل المخاوف إلى أنس القلب وأمل الروح الواحدة تلو الأخرى نعم إن الإيمان قد مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالمقبرة الكبرى وحولها إلى مجلس منور أنوس، وإلى ملتقى الأحباب وأظهر ذلك لعين اليقين وحق اليقين ثم إن الإيمان قد أظهر بعلم اليقين أن المستقبل الذي يتراءى لنا بنظر الغفلة كما يقول الأستاذ الغفلة التي تبين لنا المستقبل كقبر واسع. أما هو بعد الأنوار ماذا قال ؟ القبر عند النورسي رحمه الله- مجلس ضيافة رحمانية أعدت في قصور السعادة الخالدة ثم إن الإيمان قد حطم صورة التابوت والنعش تحولت صورة التابوت والنعش للزمن الحاضر – التي نظرها بنظر الغفلة – صارت متجرا أخرويا وصارت دار ضيافة رائعة للرحمان " ثم إن الإيمان قد بصرني بعلم اليقين أن ما يبدو بنظر الغفلة من الثمرة الوحيدة التي فوق شجرة العمر على شكل نعش وجنازة أنها ليست كذلك، النعش والجنازة ماذا صارت ؟ صارت انطلاقا للروح فصارت أهلا للحياة الأبدية ...(7)

لمن يريد أن يعود لهذا التحليل الجيد يراجع كتاب "مرشد أخوات الآخرة " للأستاذ النورسي وهو من كليات رسائل النور  وهو كتاب جميل جدا فيه توجيهات قيمة للأخوات المسلمات وسماها بهذا الإسم (أخوات الآخرة) وكذلك فيه توجيه للشيوخ وللعجائز ويعتبر بأن سن الشيخوخة هو سن الكمال ويعزي الشيوخ والعجائز.

أريد أن أختم، وأرجو أن ينتبه الحاضرون إلى مسألة مهمة جدا وهي أن النورسي رحمه الله فعلا كان ذا يقين وكان ذا صبر وصار إماما في الدين، ولكن لاننسى القولة المشهورة : (وراء كل عظيم امرأة) إن أم النورسي والتي كان اسمها "نورية" من المسائل الغريبة التي لاحظتها- أنها ما أرضعت أولادها إلا وهي على طهر ووضوء، وانظروا إلى كلام جميل جدا في هذا الكتاب، يقول :" وأرجوا أن نقارن وضعنا مع هذا الكلام يقول :" نعم إن أول أستاذ الإنسان وأكثر من يؤثر فيه تعليما إنما هي والدته "، يقول الأستاذ :"هذا المعنى الذي أتحسسه دائما إحساسا قاطعا في شخصي، أقسم بالله أن أَرِسَخ دَرسٍ أخدته وكأنما يتجدد علي إنما هو تلقينات والدتي رحمها الله ودروسها المعنوية حتى استقرت في أعماق فطرتي وأصبحت كالبذور في جسدي في غضون عمري الذي يناهز الثمانين رغم أني قد أخذت دروساً من ثمانين ألف شخص، بل أرى يقينا أن سائر الدروس إنما تبقى على تلك البذور بمعنى أني أشاهد درس والدتي رحمها الله وتلقيناتها لفطرتي وروحي وأنا في السنة الأولى"- انظروا إلى معاناتنا معاناة أطفالنا، معاناة نسائنا ورجالنا ومعاناة مجتمعنا، تصوروا يتذكر الأستاذ ما علمته له الأستاذة في السنة الأولى والدته رحمها الله.

يقول : إني أشاهد درس والدتي رحمها الله وتلقيناتها لفطرتي وروحي وأنا في السنة الأولى من عمري بذور أساس ضمن الحقائق العظمى التي أراها الآن وأنا في الثمانين من عمري.(8)

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

_________________________

1- انظر الكلمات ص558-561

2- انظر المثنوي العربي النوري ص256

3- انظر صيقل الإسلام – المناظرات ص433-434

4- انظر المكتوبات 344- 345

5- انظر الكلمات ص 193

6- انظر اللمعات ص 352

7- انظر اللمعات ص 353

8- سيرة ذاتية ص43

 

قرئت 71 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد