الواقعة التي حوّلت سعيد القديم إلى سعيد الجديد

 

الواقعة التي حوّلت سعيد القديم إلى سعيد الجديد:

استمع إلى هذه الواقعة الخيالية التي تتمثل فيها حقيقةُ حياةِ الدنيا. تلك الواقعة التمثيلية(1) التي رآها (سعيد القديم) فحوّلته إلى (سعيد الجديد) وهي:

رأيتُ نفسي كأني أسافر في طريقٍ طويل، أي اُرسَل إلى مكانٍ بعيد، وكان سيدي قد خصّص لي مقدارَ ستين ليرة ذهبية يمنحني منها كلَّ يومٍ شيئاً، حتى دخلتُ إلى فندقٍ فيه ملهى فطفقتُ أبذّر ما أملك -وهي عشرُ ليرات- في ليلةٍ واحدة على مائدة القمار والسهر في سبيل الشهرة والإعجاب. فاصبحتُ وأنا صفر اليدين لم أتجّر بشئ، ولم آخذ شيئاً مما سأحتاج إليه في المكان الذي أقصده، فلم أوفّر لنفسي سوى الآلام والخطايا التي ترسبتْ من لذات غير مشروعة، وسوى الجروح والغصّات والآهات التي ترشحت من تلك السفاهات والسفالات.. وبينما أنا في هذه الحالة الكئيبة الحزينة البائسة إذ تمثّل أمامي رجلٌ. فقال:

- أنفقَت جميع رأسمالك سدىً، وصرتَ مستحقاً للعقاب، وستذهب إلى البلد الذي تريدُه خاويَ اليدين. فان كنتَ فطناً وذا بصيرة فبابُ التوبة مفتوحٌ لم يغلق بعدُ. فبإمكانك ان تدّخر نصف ما تحصل عليه، مما بقي لك من الليرات الخمس عشرة لتشتري بعضاً مما تحتاج إليه في ذلك المكان.. فاستشرتُ نفسي فإذا هي غير راضية بذلك، فقال الرجل:

- فادّخر إذن ثُلُثَه. ولكن وجدتُ نفسي غير راضية بهذا ايضاً. فقال:

- فادّخر ربُعَهَ، فرأيتُ نفسي لا تريد أن تَدَع العادةَ التي اُبتلَيت بها. فأدار الرجلُ رأسه وأدبر في حدّةٍ وغيظٍ ومضى في طريقه. ثم رأيتُ كأنالأمور قد تغيّرت. فرأيت نفسي في قطار ينطلق منحدراً بسرعة فائقة في داخل نفق تحت الأرض، فاضطربت من دهشتي، ولكن لا مناص لي حيث لا يمكنني الذهابُ يميناً ولا شمالاً. ومن الغريب أنه كانت تبدو على طرفَي القطار أزهارٌ جميلة جذابة وثمارٌ لذيذة متنوعة فمددتُ يدي - كالأغبياء - نحوَها اُحاول قطفَ أزهارها واحصل على ثمراتها، الاّ انها كانت بعيدةَ المنال، الأشواكُ فيها انغرزتْ في يدي بمجرد ملامستها فأدْمَتها وجرحَتها والقطارُ كان ماضياً بسرعة فائقة فآذيتُ نفسي من دون فائدة تعود عليّ. فقال أحد موظفي القطار: (اعطني خمسة قروش لأنتقيَ لك الكميةَ المناسبة التي تريدُها من تلك الأزهار والأثمار، فانك تخسر بجروحك هذه أضعاف أضعاف ما تحصل عليه بخمسة قروش فضلاً عن ان هناك عقاباً على صنيعك هذا، حيث أنك تقطفها من غير إذن). فاشتدّ عليّ الكربُ في تلك الحالة فنظرت اتطلّع من النافذة إلى الأمام لأتعرّف نهايةَ النفق، فرأيت أن هناك نوافذَ كثيرةً وثغوراً عدة قد أحلّت محلَّ نهاية النفق وأن مسافري القطار يُقذَفون خارجاً من القطار إلى تلك الثغور والحفر، ورأيت أن ثغراً يقابلني أنا بالذات اُقيمَ على طرفيه حجرٌ اشبهُ ما يكونُ بشواهدِ القبر، فنظرت إليها بكل دقة وإمعان فرأيتُ أنه قد كُتب عليهما بحروفٍ كبيرة اسم (سعيد) فصرختُ من فرقي وحيرتي: ياويلاه!! وآنذاك سمعتُ صوت ذلك الرجل الذي أطال عليّ النصح في باب الملهى وهو يقول:

- هل استرجعتَ عقلك يا بني وأفقتَ من سكرتك؟. فقلت:

- نعم ولكن بعد فوات الأوان، بعد أن خارتْ قواي ولم يبقَ لي حولٌ ولا قوة.

فقال:

- تُب وتوكّل. فقلت:

- قد فعلت.

ثم أفقتُ وقد اختفى سعيدٌ القديم ورأيتُ نفسي سعيداً جديداً.(2)(*)

 

_______________________

 (1) اخترنا هذه الواقعة من بين الوقائع الثلاث التي يذكرها الأستاذ النورسي عن تحوله من سعيد القديم الى سعيد الجديد. ومن أراد التفصيل فليراجع المبحث الثاني من الكلمة الثالثة والعشرين.

(2) الكلمات/ 367-369

(*) كليات رسائل النور – السيرة الذاتية ص:173

قرئت 6 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد