ان الحديد يخرج من الارض ولا ينزل من السماء حتى يقال: "انزلنا"

 

 

السؤال:

يقال:ان الحديد يخرج من الارض ولا ينزل من السماء حتى يقال: "انزلنا". فلِمَ لم يقل القران الكريم : "اخرجن" بدلاً عن "انزلنا" الذي لا يوافق الواقع ظاهراً؟

الجواب:

ان القرآن الكريم قد قال كلمة " انزلن" لأجل التنبيه الى جهة النعمة العظيمة التي ينطوي عليها الحديد والتى لها اهميتها في الحياة.فالقرآن الكريم لا يلفت الانظار الى مادة الحديد نفسها ليقول "اخرجن" بل يقول "انزلن" للتنبيه الى النعمة العظيمة التي في الحديد والى مدى حاجة البشر اليه. وحيث ان جهة النعمة لا تخرج من الاسفل الى الاعلى بل تأتى من خزينة الرحمة، وخزينة الرحمة بلا شك عالية وفي مرتبة رفعية معنى، فلا بد ان النعمة تنزل من الاعلى الى الاسفل، وان مرتبة البشر المحتاج اليها في الاسفل، وان الإنعام هو فوق الحاجة. ولهذا فالتعبير الحق الصائب لورود النعمة من جهة الرحمة اسعافاً لحاجة البشر هو: "انزلن" وليس "اخرجن".

ولما كان الاخراج التدريجي يتم بيد البشر، فان كلمة "الاخراج" لا يُشعر جهة النعمة ولا يجعلها محسوسةً بأنظار الغافلين.

نعم لو كانت مادة الحديد هي المرادة، فالتعبير يكون " الاخراج" باعتبار المكان المادي. ولكن صفات الحديد، والنعمة التي هي المعنى المقصود هنا، معنويتان،؛ لذا لا يتوجه هذا المعنى الى المكان المادي، بل الى المرتبة المعنوية.

فالنعمة الآتية من خزينة الرحمة التى هي احدى تجليات مراتب سمو الرحمن ورفعته غير المتناهية تُرسل من اعلى مقام الى اسفل مرتبة بلاشك ؛ لذا فالتعبير الحق لهذا هو:انزلنا. والقرآن الكريم ينبه البشر بهذا التعبير الى ان الحديد نعمة إلهية عظيمة.نعم، ان الحديد هو منشأ جميع الصناعات البشرية ومنبع جميع رقيها ومحور قوتها، فلاجل التذكير بهذه النعمة العظمى يذكر القرآن بكل عظمة وهيبة وفي مقام الامتنان والإنعام قائلاً : {وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} كما يعبّر عن اعظـم معجزة لسيـدنا داود عليه السلام بقوله تعالى { وألنّا له الحديد}. اي انه يبين تليين الحديد معجزة عظيمة ونعمة عظيمة لنبي عظيم.

ثاني:ان "الاعلى" و"الاسفل" تعبيران نسبيان، فيكون الاعلى والاسفل بالنسبة الى مركز الكرة الارضية. حتى ان الذي هو اسفل بالنسبة الينا هو الاعلى بالنسبة لقارة امريكا.بمعنى ان المواد الاتية من المركز الى سطح الارض تتغير اوضاعها بالنسبة الى من هم على سطح الارض.

فالقرآن المعجز البيان يقول بلسان الاعجاز: ان للحديد منافع كثيرة وفوائد واسعة، بحيث انه ليس مادة اعتيادية تخرج من مخزن الارض التي هي مسكن الانسان، وليس هو معدناً فطرياً يستعمل في الحاجات كيفما اتفق. بل هو نعمة عظيمة أنزلها خالق الكون بصفته المهيبة "رب السموات والارض" انزلها من خزينة الرحمة وهيأها في المصنع العظيم للكون، ليكون مداراً لحاجات سكنة الارض. فعبّر عنه بالانزال قائلاً {وانزلنا الحديد} لأجل بيان المنافع العامة التي ينطوي عليها الحديد وفوائده الشاملة، كما للحركة والحرارة والضياء الآتي من السماء فوائد. تلك التي ترسل من مصنع الكون. فالحديد لا يخرج من المخازن الضيقة لكرة الارض، بل هو في خزينة الرحمة التي هي في قصر الكون العظيم ثم ارسل الى الارض ووضع في مخزنها كيما يمكن استخراجه من ذلك المخزن حسب حاجة العصور تدريجياً.

فلا يريد القرآن الكريم ان يبين استخراج الحديد هذا تدريجياً من هذا المخزن الصغير، الارض. بل يريد ان يبين ان تلك النعمة العظمى قد انزلت من الخزينة الكبرى للكون مع كرة الارض، وذلك لاظهار الحديد انه هو اكثر ضرورة لخزينة الارض. بحيث ان الخالق الجليل عندما فصل الارض من الشمس انزل معها الحديد

ليحقق اكثر حاجات البشر ويضمنها. فالقرآن الحكيم يقول باعجاز، ما معناه: انجزوا بهذا الحديد اعمالكم واسعوا للاستفادة منه باخراجه من باطن الارض.

وهذه الآية الجليلة تبين نوعين من النعم التي هي محور لدفع الاعداء وجلب المنافع. ولقد شوهد تحقق منافع الحديد المهمة للبشرية قبل نزول القرآن، إلاّ ان القرآن يبين ان الحديد سيكون في المستقبل في صور تحيّر العقول سيراً في البحر والهواء والارض حتى انه يسخّر الارض ويظهر قوة خارقة تهدد بالموت، وذلك بقوله تعالى {فيه بأس شديد} مظهراً لمعة اعجاز في إخبار غيبي.

* * *

عندما تطرق البحث عن النكتة السابقة انفتح الكلام حول هدهد سليمان. فيسأل احد اخواننا الذي يلح في السؤال: ان الهدهد يصف الخالق الكريم سبحانه بقوله { يخرج الخبء في السمـوات والارض} (النمل:25) فما سبب ذكره في هذا المقام الجليل هذا الوصف الرقيق بالنسبة الى الاوصاف الجليلة؟.

الجواب:ان احدى مزايا الكلام البليغ هو ان يُشعر الكلامُ صنعةَ المتكلم التي ينشغل بها.فهدهد سليمان الذي يمثل عريف الطيور والحيوانات كالبدوي العارف الذى يكشف بالفراسة الشبيهة بالكرامة مواضع الماء الخفية في صحراء جزيرة العرب الشحيحة بالماء. فهو طير ميمون مأمور بايجاد الماء ويعمل عمل المهندس لدى سيدنا سليمان عليه السلام، فلذلك يُثبت بمقياس صنعته الدقيقة، كون الله معبوداً ومسجوداً له، باخراجه سبحانه ما خبئ في السماوات والارض، فيعرّف اثباته هذا بصنعته الدقيقة.

ألا ما أحسن رؤية الهدهد! اذ ليس من مقتضى فطرة ما تحت التراب من المعادن والنوى والبذور التي لا تحصى، ان تخرج من الاسفل الاعلى. لأن الاجسام الثقيلة التي لا روح لها ولا اختيار لا تصعد بنفسها الى الاعلى، وانما تسقط من الاعلى الى الاسفل.فاخراج جسم مخفي تحت التراب، من الاسفل الى الاعلى ونفض التراب الثقيل الجسيم من على كاهله الجامد لا بد ان يكون بقدرة خارقة لا بذاته.فادرك الهدهد أخفى براهين كون الله تعالى معبوداً ومسجوداً له وكشفها بعارفيته ووجد أهم تلك البراهين بصنعته، والقرآن الحكيم منح اعجازاً بالتعبير عنه.(*)

______________

(*) كليات رسائل النور - اللمعة الثامنة والعشرون - ص: 422

 

قرئت 9 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد