تأليف رسالة الثمرة

 

فى سجن دنيزلي

تأليف رسالة الثمرة(1)

إننا قمنا في ظرف أسبوعين بتأليف رسالة (الثمرة) للمسجونين، وهي رسالة تلخص أهداف رسائل النور وتبين أسسها وغاياتها. فهي بمثابة رسالة دفاع عن رسائل النور.(2)

وعندما كنت أصحح الثمار الفردوسية واليوسفية للأبطال الميامين، جلبت انتباهي تلك الرسالة (الثمرة) حيث بدت لي أهميتها.

فصرخت:

لو تضاعفت متاعب السجن كلها مائة ضعف فقد ادّت هذه الرسالة أضعافها من الوظائف، إذ تستقرئ نفسها في شتى الأوساط العامة، وتسوق إلى الإيمان حتى المتعنتين.

أيها الشقاة! يا من تضيّقون عليّ الخناق! اعملوا ما شئتم واقضوا ما انتم قاضون، فلا أهمية لعملكم، كل المصائب التي تنزل بنا هينة تافهة، بل انها عناية إلهية محضة ورحمتها بعينها. قلت هذا ووجدت السلوان الكامل.(3)

إنني أخال ان الرسالة الصغيرة التي اثمرها سجن (دنيزلى) ستكون دفاعنا الحقيقي والأخير، لأن الخطط المنصوبة للقضاء علينا سابقاً والناشئة من أوهام وشكوك أثيرت ضدنا منذ سنة، قد صممت على نطاق واسع، وهي: العمل لطريقة صوفية.. انهم منظمة سرية.. وأداة لتيارات خارجية.. إثارة المشاعر الدينية واستغلالها في سبيل السياسة، والسعي لهدم الجمهورية والتعرض للدولة والإخلال بأمن البلاد.. وأشباهها من الحجج التي لا أساس لها من الصحة. لذا شنوا هجومهم علينا.

فلله الحمد والمنة بما لا يتناهى من الحمد والشكر، أصبحت خططهم بائرة وباءت بالإخفاق، إذ لم يجدوا في هذا الميدان الواسع وبين مئات من الطلاب ومئات من الرسائل والكتب طوال ثماني عشرة سنة سوى أبحاث في حقيقة الإيمان والقرآن وتحقق الآخرة والسعي للسعادة الأبدية، لذا بدأوا يتحرون عن حجج تافهة جداً ليستروا بها خططهم.

ولكن ازاء احتمال الهجوم علينا باستغفال بعض أركان الحكومة والتغرير بهم وإثارتهم علينا من قبل منظمة ملحدة رهيبة متسترة تعمل حالياً عملاً مباشراً في سبيل الكفر المطلق، فان رسالة (الثمرة) الواضحة كالشمس والمزيلة للشبهات والأوهام، والراسخة رسوخ الشم العوالي، تكون أقوى دفاع لنا تجاههم، وسوف تسكتهم بإذن الله.

واحسب انها كتّبت لنا لأجل هذا.(4)

.. وما ان دخل طلاب النور ورسالة (الثمرة) التي كتبت للمسجونين حتى تاب اكثر من مائتي سجين وتحلّوا بالطاعة والصلاح، وذلك في غضون ثلاثة أشهر أو تزيد. حتى أن قاتلاً لأكثر من ثلاثة أشخاص كان يتحاشى أن يقتل (بقة الفراش). فلم يعد عضواً لا يضر، بل اصبح نافعاً رحيماً للبلاد.

فكان الموظفون المسؤولون ينظرون إلى هذا الوضع بحيرة واعجاب، حتى صرّح بعض الشباب قبل ان يستلموا قرار المحكمة: (إذا لبث طلاب النور في السجن فسنحكم على انفسنا وندينها لنظل معهم ونتتلمذ عليهم ونصلح انفسنا بإرشاداتهم لنكون أمثالهم). فالذين يتهمون طلاب النور الذين لهم هذه الخصائص والخصال بالإخلال بالأمن لا محالة قد انخدعوا بشكل مفجع، او خُدعوا، او انهم يستغفلون أركان الحكومة في سبيل الفوضى والإرهاب -من حيث يعلمون او لا يعلمون- لذا يسعون لإبادتنا وإقحامنا في العذاب.

فنحن نقول لهؤلاء:

مادام الموت لايُقتل والقبر لايُغلق بابه، وقوافل البشرية في دار ضيافة الدنيا تغيب وتتوارى فيما وراء التراب بسرعة مذهلة.. فلا مناص أننا سنفترق في اقرب وقت، وسترون جزاء ظلمكم جزاءً رهيباً، وفي الأقل ستذوقون الموت الذي هو تسريح من الحياة عند أهل الإيمان المظلومين، ستذوقونه إعداماً ابدياً لكم، فالأذواق الفانية التي تكسبونها بتوهمكم الخلود في الدنيا ستنقلب إلى آلام باقية مؤلمة دائمة..

ان حقيقة الإسلام التي ظفرت بها هذه الأمة المتدينة وحافظت عليها بدماء مئات الملايين من شهدائها الذين هم بمرتبة الأولياء وسيوف أبطالها المجاهدين يطلق عليها اليوم -مع الأسف- أعداؤنا المنافقون المتسترون اسم الطريقة الصوفية احياناً، ويظهرون الطريقة الصوفية التي هي شعاع واحد من أشعة تلك الشمس المنيرة انها الشمس نفسها ليموهوا على بعض الموظفين السطحيين. مطلقين على طلاب النور الذين يسعون بجد ونشاط لإبراز حقيقة القرآن وحقائق الإيمان اسم (أهل الطريقة الصوفية)(5) او(جمعية سياسية) ولا يبغون من ورائها الاّ التشويه والتحريض علينا. فنحن نقول لهؤلاء ولكل من يصغي إليهم قولتنا التي قلناها أمام محكمة دنيزلي العادلة:

ان الحقيقة المقدسة التي افتدتها ملايين الرؤوس فداءٌ لها رأسنا ايضاً، فلو اشعلتم الدنيا على رؤوسنا ناراً فلن ترضخ تلك الرؤوس التي افتدت الحقيقة القرآنية ولن تسلم القيادة للزندقة ولن تتخلّى عن مهمتها المقدسة بإذن الله.

وهكذا فلا أستبدل بسنة واحدة من شيخوختي التي أنشأت حوادثُها اليأسَ والأعباء الثقيلة والتي أسعفها السلوان النزيه النابع من الإيمان والقرآن، مع ما فيها من معاناة وضيق، عشر سنوات بهيجة سارة من حياة شبابي. وبالأخص إذا كان كل ساعة من ساعات التائب المقيم لفرائضه في السجن بحكم عشر ساعات له من العبادة، وان كُل يوم يمرّ بالمريض وهو مظلوم يجعل صاحبه يفوز بثواب عشرة ايام خالدة، فكم يكون مثل هذه الحياة مبعث شكر وامتنان لله ،لمثلي الذي يترقب دوره وهو على شفير القبر.

نعم، فهذا هو الذي فهمته من ذلك التنبيه المعنوي، فقلت: شكراً لله بلا نهاية.. وفرحت بشيخوختي ورضيت بالسجن.

حيث ان العمر لا يتوقف بل يمضي مسرعاً، فان مضى باللذة والفرح فانه يورث الحزن والأسى؛ لان زوال اللذة يورث الألم، وان مضى مشبعاً بالغفلة خاوياً من الشكر فانه يترك بعض آثار الآثام ويفنى هو ويمضي.

ولكن إذا مضى العمر بالعناء والسجن، فلكون زوال الألم يورث لذةً معنوية، وأن مثل هذا العمر يعدّ نوعاً من العبادة؛ لذا يظل باقياً من جهة، فيجعل صاحبه يفوز بعمر خالد بثمرات خالدة خيّرة، ومن جهة أخرى يكون كفّارة للذنوب السابقة وتزكية للأخطاء التي سببت السجن.

فمن زاوية النظر هذه على المسجونين الذين يؤدون الفرائض أن يشكروا الله تعالى ضمن الصبر.(6)(*)

 

_________________________

(1) تأليفاته الأخرى فى سجن دنيزلي:

1- الشعاع الثاني عشر (عدد من دفاعاته في محكمة دنيزلي)

2-الشعاع الثاني عشر (رسائل مسلية وموجهة الى طلاب النور)

3-مكاتيب توجيهية الى طلابه يبلغ عددها(120) مكتوباً .ب 2/1114

(2) الشعاعات/330 وقد ألّفت المسائل الثمانية الأولى من رسالة الثمرة سنة 1943 أما المسألة التاسعة فقد أُلّفت قي بداية سنة 1944. ب2/1023

(3) الملاحق/ اميرداغ 238

(4) الشعاعات/363-364

(5) ذلك لأن الطرق الصوفية كانت يومئذ محظورة في نظر القانون. فاتهامهم بالطريقة الصوفية كان الغرض منها ادانتهم قانونيا.

(6) اللمعات/400-402

(*) كليات رسائل النور- سيرة ذاتية ص:327

 

 

قرئت 9 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد