تجلي اسم الله الحفيظ

 

باسمه سبحانه

{ فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يَره * ومَن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يَره }(الزلزال:7- 8) 

ايها المستخلف المبارك

يا مَن يريد ان يرى دليلاً على حقيقة الآيتين الكريمتين اللتين تشيران الى التجلي الأتم لاسم الله "الحفيظ".

ان التجلي الاعظم لاسم الله الحفيظ ونظير الحقيقة الكبرى لهاتين الآيتين مبثوثٌ في الارجاء كافة، يمكنك أن تجده بالنظر والتأمل في صحائف كتاب الكائنات، ذلك الكتاب المكتوب على مِسطر الكتاب المبين وعلى موازينه ومقاييسه.

خذ- مثلاً - غَرفةً بقبضتك من اشتات بذور الازهار والاشجار، تلك البذيرات المختلطة والحبّات المختلفة الاجناس والانواع وهي المتشابهة في الاشكال والاجرام، أدفن هذه البُذيرات في ظلمات تراب بسيط جامد،ثم اسقها بالماء الذي لاميزان له ولايميز بين الاشياء فاينما توجهه يسيل ويذهب. ثم عُدْ اليه عند الربيع الذي هو ميدان الحشر السنوي، وانظر وتأمل كيف ان مَلَك الرعّد ينفخُ في صُوره في الربيع كنفخ اسرافيل، مُنادياً المطر ومُبشراً البذيرات المدفونة تحت الارض بالبعث بعد الموت. فانت ترى ان تلك البذيرات التي هي في منتهى الاختلاط والامتزاج مع غاية

التشابه تمتثل تحت انوار تجلّي اسم "الحفيظ"، إمتثالاً تاماً بلا خطأ الأوامر التكوينية الآتية اليها من بارئها الحكيم. فتلائم اعمالها وتوافق حركاتها مع تلك الاوامر بحيث تستشف منها لمعان كمال الحكمة والعلم والارادة والقصد والشعور.

الا ترى كيف تتمايز تلك البذيرات المتماثلة، ويفترق بعضها عن البعض الآخر. فهذه البُذيرة قد صارت شجرة تينٍ تنشر نِعم الفاطر الحكيم فوق رؤوسها وتنثرها عليها وتمدّها الينا بايدي اغصانها. وهاتان البُذيرتان المتشابهتان بها قد صارتا زهرة الشمس وزهرة البنفسج.. وامثالها كثير من الازهار الجميلة التي تتزين لأجلنا وتواجهنا بوجه طليق مبتسم متوددةً الينا.. وهناك بذيراتٌ اخرى قد صارت فواكه طيبة نشتهيها، وسنابل ملأى، واشجاراً يافعة، تثير شهيتنا بطعومها الطيبة، وروائحها الزكية، واشكالها البديعة فتدعونا الى انفسها، وتُفديها الينا، كي تصعد من مرتبة الحياة النباتية الى مرتبة الحياة الحيوانية. حتى نمت تلك البذيرات نمواً واسعاً الى حد صارت تلك الغرفة منها - باذن خالقها - حديقة غنّاء وجنةً فيحاء مزدهرة بالازهار المتنوعة والاشجار المختلفة، فانظر هل ترى خطأً او فطوراً { فارجع البصر هل ترى من فطور } (المُلك:3).

لقد اظهرت كلُ بذرة بتجلي اسم الله الحفيظ واحسانه ما ورثَته من ميراث ابيها واصلها بلا نقصان وبلا التباس.

فالحفيظ الذي يفعل هذا الحفظ المعجِز يشير به الى إظهار التجلي الاكبر للحفيظية يوم الحشر الاكبر والقيامة العظمى.

نعم، ان اظهار كمال الحفظ والعناية في مثل هذه الامور الزائلة التافهة بلا قصور، لهو حجةٌ بالغة على محافظة ومحاسبة ما له اهمية عظيمة وتأثير ابدي كأفعال خلفاء الارض وآثارهم، واعمال حملة الامانة واقوالهم، وحسنات عبدة الواحد الاحد وسيئاتهم..

{ أيحسَبُ الانسانُ أنْ يُترَكَ سُدىً..} (القيامة: 36) بلى إنه لمبعوثٌ الى الابد، ومرشّحٌ للسعادة الابدية او الشقاء الدائم، فيحاسَبُ على السَبَد واللَّبَد(1) فاما الثواب واما العقاب.

وهكذا فهناك ما لا يحد ولا يُعد من دلائل التجلي لإسم الله الحفيظ، وشواهد حقيقة الآية المذكورة.

فهذا المثال الذي تنسج على منواله ليس الاّ قبضة من صُبرة(2)، او غرفة من بحر، او حبة من رمال الدهناء، ونقطة من تلال الفيفاء(3)، وقطرة من زلال السماء، فسبحانه من حفيظ رقيب وشهيد حسيب.

{ سُبحَانَكَ لا عِلمَ لَنا إلاّ ما عَلمتَنا إنكَ أنتَ العَليمُ الحَكيم }(*)

_________________________

(1) السَبَد: جمع أسباد: القليل من الشعر، يقال: »ما له سبدٌ ولا لَبَد« أي لا شعر ولاصوف، يقال:لمن لا شئ له (انظر مجمع الامثال للميداني). ــ المترجم.

(2) الصُبرة: ما جُمع من الطعام بلا كيل ولا وزن. ـ المترجم.

(3) الفيفاء: الصحراء الملساء، والجمع: الفيافي. ـ المترجم.

(*) اللمعة السابعة عشرة - ص: 208

قرئت 140 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد