تحضير الأرواح

 

    بعد ظهور موضة (( تحضير الأرواح )) في الغرب، انتشرت هذه الظاهرة في بلاد الشرق، ولاسيما بين الطبقات الراقية في المجتمع الشرقي حيث وجدت الظاهرة استعداد هذه الطبقة لقبولها بسهولة. لذا رأينا من المفيد بحث هذا الموضوع بكل جوانبه :

    ان الذين يزعمون العمل في ((تحضير الأرواح )) إنما يخدعون قسماً من الغافلين والسذج من الناس وبأشكال مختلفة.

    واهم أشكاله المنتشرة هي : إن الوسيط في تحضير الأرواح يقوم بترتيب عدد من الفناجين وعرض بعض الحروف على الطاولة. ويقال ان الوسيط يفيد بذلك اسم الروح التي يقوم بتحضيرها. وبعد ذلك تهتز الفناجين. وتُسمع أصوات من الطاولة. وفي هذه الأثناء تتحرك الحروف يميناً وشمالاً. فاهتزاز هذه الحروف _كما يزعمون _ هو محاولة الروح لتوضيح أجوبتها.

     هل هناك علاقة حقيقة بين الأرواح وبين ظاهرة تحضير الأرواح ؟ وهل ان الأرواح التي أحضرِت – كما يزعمون _ من قبل الوسيط وتكلّمت هي أرواح الموتى حقيقة ؟ وإذا كانت هذه الأرواح ليست بأرواح الموتى فمَن الذي يُخرج الأصوات عند الضرب على الطاولة ؟.   

    يمكن الحصول على جواب هذه الأسئلة فقط في ضوء دلائل عقلية ونقلية للعلم والمنطق.

    في البداية نبين ما يلي : ليس هناك أي شيء في الكائنات عبثاً لا غاية له ولا مالك، ولم يُترك أي شيء لحاله، ولا أحيل إلى المصادفة قط. وان كل مخلوق في الكائنات _ سواء كان حياً أو جامداً هو اثر نظام متقن وتحت مراقبة وتأثير شديدين، وليس هناك شيء خارج نطاق قوانين الإحاطة والشمول التي وضعها الله تعالى.

    ومن يمعن النظر في هذه القوانين الجارية بنظام وانتظام مستمرين، يعلم يقيناً بان الذات الأقدس- جل جلاله – الذي يدير هذه الحياة بهذه القوانين، لابد انه سيديمها بعد موتها بعلمه المحيط وإرادته المطلقة

    ومن ثم فان الله تعالى خلق روح الإنسان من بين مخلوقاته في اشرف واكرم ماهية، وزينها بمزايا راقية، وجعل سبحانه الكائنات متوجهة إلى هذا الإنسان، واتخذه مخاطباً وخليلاً له من بين المخلوقات قاطبة. فهذا يرينا بوضوح بان الذات ذا الجلال سبحانه لا يمكن تسليم تصرف هذه الروح التي ملّكها هذه المزايا السامية وجعلها مظهراً لهذه الصفات إلى أيدي أخرى ولا يتركها ألعوبة بيد السفهاء.

     والإنسان ليس له الإرادة في التصرف في جسده فمثلا: انه لا يعرف كيفية تقسيم الغذاء بعد تناوله في معدته، وكيفية توزيعه إلى الأعضاء الأخرى. فإذا كان الإنسان غافلاً عن هذه التصرفات التي تحدث داخل جسده، فكم يكون ادعاءه ذلك حول تصرفه في الأرواح مضحكاً !

    ان كل ما في السماوات والأرض هو تحت تصرف الله تعالى. بناء على ذلك فان الأرواح لم تُترَك لإرادتها، ولو كانت كذلك فان قسماً من هذه الأرواح لا ترغب حتى المجيء إلى الدنيا، وان جاءت فإنها تأبى الخروج منها بعد ذلك.

    والآية الكريمة { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } تفيد بوضوح تام إن روح الإنسان هي من أمر الله. فأي قوة تستطيع التأثير على روح هي من أمر الله. وأي قوة تستطيع اخذ زمام التصرف من هذه الروح ؟

    وهناك عديد من الآيات وردت في القران الكريم تتحدث عن روح الإنسان : وإنها لا تبقى سائبة بعد موت الإنسان بل إنها إما في حفرة من حفر النار أو في روضة من رياض الجنة.

    فالآية الكريمة { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } (الأنفال:50)  نزلت في حق الكفار. وان الآية { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } (غافر:46)  تبين بوضوح ان الكفار يُعرضون على النار إلى أن تقوم الســـاعة. أما المؤمنين فيقول الله تعالى:{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل:32).

     وهناك أحاديث شريفة كثيرة تتحدث عن عذاب القبر وعن أحوال الموتى. منها : يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أو حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ ))[1].

        وفي حديث آخر (( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قُبِرَ الْمَيِّتُ أو قَالَ أَحَدُكُمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَالآخَرُ النَّكِيرُ فَيَقُولانِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ مَا كَانَ يَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولانِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ نَمْ فَيَقُولُ أَرْجِعُ إلى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ فَيَقُولانِ نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لا يُوقِظُهُ إِلاّ أَحَبُّ أَهْلِهِ إليه حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُ لا أَدْرِي فَيَقُولانِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ فَيُقَالُ لِلأَرْضِ الْتَئِمِي عَلَيْهِ فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلاعُهُ فلا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِك َ ))[2].

    نفهم من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة آنفة الذكر بأن الروح كبقية المخلوقات في هذه الكائنات ليست سائبة تسرح حيث تشاء بل تحاسَب في القبر إما حساباً يسيراً أو حساباً عسيراً.

    ومن الجدير بالذكر، كما ان العالم ليس منحصرا على المادة، كذلك الروح فأنها ليست منحصرة على الإنسان فحسب، بل هناك عوالم روحانية لانهائية تضم مخلوقات لانهائية أيضاً _ كعالم الملائكة وعالم الجن وعالم الشياطين وغيرها من العوالم الروحانية التي لا يعلم عددها إلاّ الله سبحانه.

     والآن نخوض في تفاصيل علاقة هذه العوالم مع دعوة (( تحضير الأرواح )):

ان طائفة الملائكة التي خُلقت من (( نور )) هي اكبر طائفة لهذه المخلوقات. فهم عبادٌ مُكرمون يعبدون الله وحده ولا يعصونه أبداً. وانهم مشغولون دائماً بوظائف الذكر والتسبيح والعبادة والمعرفة ويعملون بأمره تعالى وقوته وباسمه ولحسابه. فهذه المخلوقات المقدسة التي تعتبر جميع أعمالها مبنية على الخير المطلق، لاشك أنها لا تنزل ولا تلبي لدعوة الإنسان العاصي، ولا تتبع الوسطاء في عملية تحضير الأرواح.

    وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تبين بان أرواح الإنسان والملائكة تحت تصرف الهي. منها :

{عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }(التحريم:6).

{ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } (الأنبياء :26-27)

{ وَلَهُ مَنْ فِي السماوات وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } (الأنبياء:19-20).

     نفهم من ذلك ان الوسطاء لا يستطيعون جلب الملائكة.لأن الملائكة عباد مكرمون ومنزهون عن مثل هذه الأعمال الدنيئة. ولا يمكن أن يكونوا وسيلة لجلب الأخبار للوسطاء.

    أما أرواح الإنسان، فإنها تنقسم إلى أربعة أنواع من حيث الدرجة والمرتبة:

  1. أرواح الأنبياء (عليهم السلام) والأولياء (رضوان الله تعالى عليهم):

    ان هؤلاء الذوات النورانيون والصفوة المختارة من بين المخلوقات هم قادة البشرية. وكل منصف وعاقل وصاحب عقيدة سمحة يصدق بان هذه الأرواح العالية والمقبولة عند الله والمفضلة على الملائكة لا يمكن أن تنزل وتحضر بنداء إنسان سافل آثم.

 

2- أرواح الشهداء:

    يقول الله تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ } (البقرة:154).

     يعتبر الشهداء بحكم الأولياء لدى جميع المفسرين. إلاّ ان الشهيد يعيش في مرتبة حياة أخرى تسمى بـ (( حياة الشهداء))، فيتبين من ذلك ان أرواح هذه الزمرة المجاهدة التي أفدت بحياتها في سبيل الله لا يمكن أن تكون آلة بيد الوسطاء السفلة.

3- أرواح المؤمنين المذنبين:

    بما ان هذه الأرواح آمنت بالله وباليوم الآخر، إلاّ أنها لم تعمل الصالحات بل تمادت في المعاصي والذنوب. فهي تتعرض لعذاب القبر. ولم يرد إلى الأذهان بأن هذه الأرواح تأتي إلى الوسطاء لأنها تُحاسب في القبر وتلقى من الأذى ما يُشغلها عن التجوال كيفما تشاء.

4- أرواح الكفار:

    ان هذه الأرواح التي لم تؤمن بالله ولا برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا بالقرآن ولا باليوم الآخر ثابت بالكتاب والسنة تكون معرضة لعذاب اليم وابدي في قبرها. فمَن يسمح لهذه الأرواح التي تكون مخاطبَة من قِبَل قهّار ذو الجلال أن تأتي وتحرك المناضد؟. 

    يتبين مما سبق بأنه من المحال أن تحضر الملائكة وأرواح الإنسان إلى الوسطاء. ويضرب على الطاولة ؟. إذن فمَن الذي يحضر مع الوسطاء ويضرب على الطاولة ؟!.

    للإجابة على هذا السؤال نرى من المفيد أن نقف قليلاً على الحكم المترتبة والمتعلقة بخلق الإنسان. ففي الآية الكريمة { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }(الإنسان:2) إشارة إلى أن الإنسان أرسِل إلى هذه الدنيا لأجل الامتحان والاختبار. فالدنيا ميدان سباق فتحت بابها للإنسان. وبهذا السباق تتميز الأرواح الطيبة التي هي كالألماس من الأرواح الخبيثة التي هي كالفحم. ويتم تمييز الصالحين من الطالحين : وهذا ما يقتضي خلق الشياطين.

    وكما وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تصرّح بان الشياطين هم مخلوقات بعيدة عن الخير وقريبة من الشر، ومسلطون على الإنسان. منها قوله تعالى :

    { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ  * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ }( الأعراف : 11_ 18 )

في هذه الآيات الكريمة نقطتان تتعلقان بمسألتنا عن قريب :

    الأولى : ان إبليس سأل ربه أن يمهله ويبقيه حياً إلى يوم القيامة.

    والثانية : صد إبليس للإنسان عن طريق الحق بإتيانه عن أمامه وخلفه ويمينه وشماله. لذا فانه يقوم دائما بإثارة الرغبات السفلية والحيوانية لدى الإنسان،بخداعه وصده عن طريق الحق. وان إحدى سبل إغفال الشيطان هي : استخدامه الوسطاء كمهرج، وإفساده البشرية ونقل أخبار كاذبة لهم.

    ولنوضح هذه الحقيقة، وهي انه ليس للشياطين سلطان على المؤمنين الذي يعرفون ربهم ويتبعون كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  ويعملون الصالحات في ميدان الامتحان هذا. وإنما يكون سلطانه على ضعاف الإيمان والذين لا يعملون الصالحات وواقعون في السفاهة، والبعيدون كل البعد عن أمر الله. أي انه يضل الذين لم يستفيدوا من نور القرآن الكريم استفادة كاملة بسوقهم إلى السيئات والمعاصي جاعلًا منهم ألعوبة وسخرية له. وانه ينتهز من كل فرصة تتاح له ليسيطر على هذا الصنف من البشر.

    لذا يستطيع المسلم النجاة من الوقوع في حبائل هؤلاء العابثين بمعرفته أن كل حركة لا تليق بأوامر الله تعالى هي من آثار الشياطين. ومن الناس مَن ينجذب إلى غفلات الشياطين الذين يزينون هذا المسلك الباطل بزينة العلم مظهرين جاذبيته وحلاوته. ولكن الله تعالى ينزل على رؤوس هؤلاء الأشخاص هذه الآيات الجليلة والمليئة بالمعجزات وبالعظات كالنجم الثاقب ويجعلهم في ارذل وأحط مرتبة : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } (الشعراء:221-223).

    نعم ان الأرواح الحاضرة في ما يدعى في تحضير الأرواح  والذين يضربون على المناضد ويخرجون أصواتاً ؛ هم شياطين ومردة الجن. يقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي (رحمه الله) في هذا الخصوص : (( ولما كانت هذه المسألة _ تحضير الأرواح والتنبؤ بالغيب _ آتية من الأجانب ونابعة من الفلسفة فقد تؤدي إلى أضرار جسيمة بالمؤمنين. حيث يمكن استعمالها استعمالاً سيئاً، إذ لو كان فيها صدق واحد ففيها عشرة أكاذيب. ولا محك ولا مقياس لتمييز الصدق عن الكذب. وبهذه الوسيلة يلحق الجن _ الذين يعينون الأرواح الخبيثة _ الضرر بقلب المنشغل بها وبالإسلام أيضاً، ذلك لأنها اخبارات تنافي حقائق الإسلام وتعارض عقائده العامة مع انها تزاول باسم أمور روحية معنوية، حيث يوحون بأنهم أرواح طيبة مع انهم أرواح خبيثة، بل انهم يسعون للإخلال بالأسس الإسلامية، أو يتفوهون بكلمات مقلدين أسماء أولياء عظام، وبهذا يستطيعون تغيير الحقيقة والتمويه على السذج الذين يكونون ضحية خداعاتهم..)) ( الملاحق- ص388).

    ورأينا من المناسب درج عبارات لمولانا جلال الدين الرومي[3] تتعلق بالموضوع نفسه:

    (( لو سلط الجن على الإنسان وغلبه لضاعت صفات الإنسانية)).

    (( وكل ما يقوله هو كلام الجن. سواء من بداية الجملة أو نهايتها فانها في الحقيقة هي للجن)).

    (( في هذه الأثناء ذهبت شخصية الإنسان، ويحكم عليه الجن كلياً، فيتكلم التركي بالعربية بدون الهام.)).

    وفي صدد تسلط الجن على الإنسان نشير إلى حديث شريف رواه البخاري عند تفسيره الآية : { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ أو كَلِمَةً نَحْوَهَا لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إلى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إليه كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ{ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } قَالَ رَوْحٌ فَرَدَّهُ خَاسِئًا [4].

     وتعتبر الدراسة الفكرية التي أجراها الأستاذ احمد نعيم بابان زاده[5] أحد مدرسي (دار الفنون) القدماء في ضوء هذا الحديث الشريف حول الجن، جديرة بالاهتمام والتقدير.ويفيد بابان زاده في القسم الأول من دراسته بان الله تعالى هو الذي يعلم عدد أنواع المخلوقات. وان الكائنات الحية لا تشمل الإنسان والحيوان فحسب، بل هناك إلى جانب تلكما الطائفتين، مخلوقات لطيفة كالملائكة والجن. ويستشهد بأحاديث نبوية شريفة وشهادات واخبارات الأولياء والأصفياء. وبعدما يوضح بان الملائكة هم مخلوقات نورانية لا تحيد عن أمر الله تعالى مقدار ذرة. يقول عن طائفة الجن : ((الجن كالإنس يعيش على الأرض فمنهم المؤمن ومنهم الكافر. ويدخل قسم منهم في أشكال مختلفة. وان وجود هذه المخلوقات – الملائكة والجن- ثابت بالكتاب والسنة. وإنكارها هو كفر لأنه تكذيب للكتاب والسنة.

ويضيف احمد نعيم بان العلم لا يحيط بكل الحقائق قائلا : ((عندما يقول العلم يوماً : أني اعلم كل شيء، فانه انحرف عن غايته الأصلية وانقلب إلى الجهل. ولكن غاية العلم ليست هي إنكار الحقائق، بل هي السبر في غورها. وان إنكاره الحقائق يجعله عقيماً ودون جدوى)).

    وينتقد احمد نعيم أقوال قسم من المفكرين، منها قولهم: (( نقبل بكل ما يصدقه العلم، ولا نحكم على ما يصدقه)). فيقول في هؤلاء:  (( فإذا كانت هذه الفلسفة نابعة من شوق بحث الحقيقة، فلِمَ لا يُبحث عن الخبر الصحيح المستند للنبوة المحمدية والمبرهن بتأييد سديد من جانب العقل والنقل؟. وان الشخص الذي يبحث عن الحقيقة لو ولّى وجهه شطرها وبذل جهده قليلاً نحوها لتوصل إليها مطمئناً.))

    ويستمر احمد نعيم: (( هناك صور في بعض الكتب يقال بأنها صور التقطت للأرواح، بينما الحقيقة هي ان هذه الصور لا تمت بأية صلة بالأرواح )) ويضيف قائلاً: (( ربما هي صور تتعلق بالجن بأنواعها الإفرنجي، وذوات الحركات البعيدة وللطائفة الشيطانية.)). ويوضح بابان زاده قائلاً : ان اهتزاز الطاولة والفناجين التي عليها إنما هو حاصل من قبل الشياطين ومردة الجن دون أن تتدخل فيها أيدي الوسطاء.

    ويقدم احمد نعيم دليله في هذا الموضوع. وهو( كروكس) من مشاهير علماء الفيزياء والفلك في إنكلترا حيث يقول فيه: (( عندما اخبر كروكس الجمعية الملكية البريطانية العالية عن تجاربه التي أجراها على آلات فيزيائية، كان الرد عليه بأنه (( مخدوع)) ومقيد العيون. فرد هو بدوره على المنكرين قائلاً : (( لنقبل بأنني قد خُدِعت ولكن كيف بالآلات الفيزيائية فهل خدعت هي الأخرى وقيدت عيونها؟.))

    ويؤكد بابان زاده ان هناك جمعيات كثيرة في الغرب تعمل في مجال بحث أسرار وحقائق الجن وكيفية إقامة الروابط والاتصال معهم. وهناك مئات المجلات والنشرات تنشر في هذا المجال، حتى يؤكد وجود مئات من أساتذة الجامعات في الغرب لا يرون الاشتغال في هذا المجال عاراً لهم، منهم رئيس جامعة برمنكهان Lazarref & Charles & Oliver.

    ويصرح احمد نعيم في هذا المجال بهذه الحقيقة مؤكداً: (( ان معلومات هؤلاء الأشخاص في هذا الباب عن الجن ناقصة وعقيمة وبلا محك ولا مقياس. لذا فهي بدائية جداً ولا يؤخذ منها. أما نحن المسلمين، فان اعتقادنا وإيماننا في هذا الباب هو البيانات التي اخبر بها الصادق المصدوق r والذي وسعت علوم معرفته بالوحي الإلهي. فحكمنا محدود بحدود كلام ذلك الصادق الأمين r ونقبل به كما سمعناه منه. ولا نضيف عليه شيء من عندنا. وان التكلم عن علماء الغرب- سواء تطابقت آرائهم معنا أم لا- هو لأجل التوضيح  ان إنكارهم الوحي وضيق ساحاتهم العلمية وقيامهم بإنكار الحقائق والأشياء المجهولة دون تأمل أو تدبر فيها، وكلامهم الهذر هو خطر جسيم باسم الحقيقة وكفر والحاد باسم العلم.)).(*)

 

_____________________

(1) رواه الترمذي من حديث ابي سعيد .

(2) رواه الترمذي في سننه .

(3)  مولانا جلال الدين الرومي (604-672هـ ) : عالم بفقه الحنفية والخلاف وأنواع العلوم. ثم متصوف صاحب (المثنوي) المشهور بالفارسية المستغني عن التعريف في ستة وعشرين ألف بيت. وصاحب الطريقة المولوية ولد في بلخ (بفارس) استقر في قونية سنة (623هـ) عرف بالبراعة في الفقه وغيره من العلوم الإسلامية فتولى التدريس بـ( قونية) في أربع مدارس بعد وفاة أبيه سنة (628هـ). من مؤلفاته ديوان كبير .(المترجم)

(4) رواه البخاري برقم (4434) .

(5)  احمد نعيم بابان زاده (1876- 1934م) : ولد في بغداد من عائلة كردية. وانهى دراسته الابتدائية فيها ثم انتقل إلى استانبول حيث أنهى دراسته العالية. ومن ثم عمل أستإذا جامعياً في نفس الجامعة التي تخرج منها . اكثر من الكتابة في المجلات والصحف العثمانية فكتب في مجلة (ثروت فنون) التي ظهرت في أواخر عهد السلطان عبد الحميد. وكتب في مجلة (صراط مستقيم) التي أقامها الإسلاميون عام 1908 للرد على دعاة الفكر القومي، كما كتب في مجلة (سبيل الرشاد) وهي امتداد طبيعي لمجلة (صراط مستقيم). (المترجم)

(*) ما هي الروح ؟ تأليف الأستاذ محمد قرقنجي - ترجمة سامي سليمان عارف

 

 

قرئت 178 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد