حاجة أهل الإيمان إلى حقيقة نزيهة
سؤال:
سؤال في منتهى الأهمية، يسألنيه من له علاقة بي، ويرد في نفسي أيضاً، فهو سؤال معنوي ومادي في الوقت نفسه. وهو:
لِمَ تقوم بما لم يقم به أحد من الناس، لمَ لا تلتفت إلى قوى على جانب عظيم من الأهمية، تستطيع ان تعينك في أمورك، فتخالف جميع الناس. بل تظهر استغناءً عنهم؟.
ثم لِمَ ترفض بشدة مقامات معنوية رفيعة يجدك طلاب النور الخواص أهلاً لها، فتتجنبها بقوة في حين يتمناها الناس ويطلبونها، فضلاً عن انها ستقدم خدمات جليلة في سبيل نشر رسائل النور وتمهد السبيل لفتوحاتها؟
الجواب:
إن أهل الإيمان - في الوقت الحاضر- محتاجون أشد الحاجة إلى حقيقة جليلة نزيهة بحيث لا يمكن ان تكون وسيلة للوصول إلى شئ، ولا تابعة لأي شئ كان، ولا سلماً للوصول إلى مآرب أخرى، ولا يتمكن أي غرض أو أي قصد كان من أن يلوثها، ولا تتمكن الفلسفة أو الشبهات أن تنال منها. فالمؤمنون محتاجون إلى مثل هذه الحقيقة النزيهة لترشدهم إلى حقائق الإيمان، حفاظاً على إيمان المؤمنين في هذا العصر الذي اشتدت فيه صولة الضلالة التي تراكمت شبهاتها منذ ألف سنة.
فانطلاقاً من هذه النقطة فان رسائل النور لا تعبأ بالذين يمدّون لها يد المعاونة سواءً من داخل البلاد أو خارجها ولا تهتم بما يملكونه من قوى ذات أهمية بل ولا تبحث عنهم ولا تتبعهم. وذلك لكي لا تكون في نظر المسلمين عامة وسيلة للوصول إلى غايات دنيوية ولن تكون الا وسيلة خالصة للحياة الخالدة الباقية. لذا فهي بحقيقتها الخارقة وبقوتها الفائقة تتمكن من إزالة الشبهات والريوب المهاجمة على الإيمان.
أما المقامات النورانية والمراتب الأخروية التي هي درجات معنوية مقبولة لدى أهل الحقيقة قاطبة بل يرغبون فيها، ولا ضرر منها، وقد منحها لك إخواننا المخلصون بما يحملون نحوك من حسن الظن، وهي لا تلحق ضرراً بإخلاصكم -حتى لو قبلتها لا يرفضون قبولك لكثرة ما لديهم من حجج وبراهين عليها- الاّ انك ترفض تلك المقامات بغضب وحدّة لا تواضعاً او تجرداً وترفعاً منك، بل حتى تجرح مشاعر إخوانك الذين منحوك تلك المقامات، فتتجنبها بشدة..! فلماذا؟
الجواب:
كما ان شخصاً غيوراً يضحِّي بنفسه إنقاذاً لحياة أصدقائه، كذلك لأجل الحفاظ على الحياة الأبدية للمؤمنين من صولة أعداء خطرين، أضحي إذا لزم الأمر وهو يلزم لا بتلك المقامات التي لا استحقها، بل أيضاً بمقامات حقيقية لحياة أبدية. ذلك ما تعلمته من رسائل النور، الا وهو الشفقة على الخلق.
نعم! ان الأمر يقتضي هكذا في كل وقت، ولا سيما في هذا الوقت، وبخاصة عند استيلاء الغفلة التي أنشأتها الضلالة، في خضم هيمنة التيارات السياسية والآراء الفلسفية، وفي عصر كعصرنا هذا الذي هاج فيه الغرور والإعجاب بالنفس، تحاول المقامات الكبيرة دائماً ان تجعل كل شئ أداة طيعة لها، وتستغل كل وسيلة في سبيل غاياتها، حتى تجعل مقدساتها وسيلة لبلوغ مناصب دنيوية. ولئن كانت هناك مقامات معنوية فهي تُستغل استغلالاً أكثر، وتُتخذ وسيلة أكثر طواعية من غيرها؛ لذا يظل دوماً تحت ظل الإتهام، إذ يقول العوام: انه يجعل خدمات مقدسة وحقائق سامية وسائل وسلالم لبلوغ مآربه، حفاظاً على نفسه أمام نظر الناس، ولكي يبدو أنه أهل لتلك المقامات.
وهكذا فلئن كان قبول المقامات المعنوية يفيد الشخص والمقام فائدة واحدة فانه يلحق ألف ضرر وضرر بالناس عامة وبالحقائق نفسها بما يصيبها من كساد بسبب الشبهات الواردة.
حاصل الكلام:
ان حقيقة الإخلاص تمنعني عن كل ما يمكن ان يكون وسيلة إلى كسب شهرة لبلوغ مراتب مادية ومعنوية.
نعم، انه على الرغم من ان هذا يؤثر تأثيراً سيئاً في خدمة النور، الاّ أنني أرى أن إرشاد عشرة من الناس إرشاد خادم لحقائق الإيمان إرشاداً خالصاً حقيقياً وتعليمهم أن حقائق الإيمان تفوق كل شئ، أهم من ارشاد ألف من الناس بقطبية عظيمة، لان النوعية تفضل على الكمية، ولأن أولئك الرجال العشرة يرون تلك الحقائق أسمى من أي شئ آخر. فيثبتون، ويمكن ان تتنامى قلوبهم التي هي في حكم البذرة إلى شجرة باسقة. أما أولئك الألوف، فانهم بسبب ورود الشبهات المقبلة من أهل الدنيا والفلسفة وهجومها عليهم، ربما يتفرقون من حول ذلك القطب العظيم، إذ ينظرون إليه أنه يتكلم من زاوية نظره الخاصة، ومن مقامه الخاص ومن مشاعره الخاصة!
لذا أرجح الإتصاف بالخدمة، على نيل المقامات. حتى أنني قلقتُ ودعوت الله الاّ يصيب شئ - في هذه المرة- ذلك الشخص المعروف الذي أهانني بغير وجه قانوني، وبخمسة وجوه من أوجه الإهانة والتحقير، وفي أيام العيد، تنفيذاً لخطط وضعها أعدائي. حيث ان المسألة انتشرت بين الناس، فخشيت ان يمنحوني مقاماً، فلربما يعدّون حدوث شئ ما نتيجة كرامةٍ خارقةٍ.
لذا قلت: (يارب اصلح شأن هذا، أو جازه بما يستحقه من دون ان يكون عقاباً يومئ إلى كرامة معنوية).(1) (*)
________________________
(1) الملاحق - أميرداغ 1/265-267
(*) كليات رسائل النور-سيرة ذاتية ص:370