خاطرة أخيرة من دنيزلي
رسائل من سجن دنيزلي
خاطرة أخيرة من دنيزلي
على الرغم من صدور قرار البراءة وإعادة الكتب المصادَرة من محكمة دنيزلي،(1) منع الأستاذ النورسي من السفر، لحين وصول الأمر من أنقرة فظل في هذه الفترة في فندق "شهر" ما يقرب من شهرين في دنيزلي وإخوتُه طلابُ النور سافر كلٌّ إلى بلده.(2) «فكنت جالسا ذات يوم في الطابق العلوي من فندق شهر عقب إطلاق سراحنا من سجن دنيزلي أتأمل فيما حواليّ من أشجار الحَوَر (الصفصاف) الكثيرة في الحدائق الغناء والبساتين الجميلة، رأيتها جَذْلَى بحركاتها الراقصة الجذابة، تتمايل بجذوعها وأغصانها، وتهتز أوراقها بأدنى لمسة من نسيم، فبدت أمامي بأبهى صورة وأحلاها، وكأنها تسبح للّٰه في حلقات ذكر وتهليل.
مسّت هذه الحركات اللطيفة أوتار قلبي المحزون من فراق إخواني، وأنا مغموم لانفرادي وبقائي وحيداً.. فخطر على البال -فجأة- موسمَا الخريف والشتاء وانتابتني غفلة، إذ ستتناثر الأوراق وسيذهب الرواء والجمال.. وبدأت أتألم على تلك الحَوَر الجميلة، وأتحسر على سائر الأحياء التي تتجلى فيها تلك النشوة الفائقة تألماً شديداً حتى اغرورقت عيناي واحتشدت على رأسي أحزان تدفقت من الزوال والفراق تملأ هذا الستار المزركش البهيج للكائنات!.
وبينما أنا في هذه الحالة المحزنة إذا بالنور الذي أتت به الحقيقة المحمدية عليه الصلاة والسلام يغيثني -مثلما يغيث كل مؤمن ويسعفه- فبدّل تلك الأحزان والغموم التي لا حدود لها مسرات وأفراحاً لا حد لها، فبتّ في امتنان أبدي ورضى دائم من الحقيقة المحمدية التي أنقذني فيض واحد من فيوضات أنوارها غير المحدودة، فنشر ذلك الفيض السلوانَ في أرجاء نفسي وأعماق وجداني..»(3)
وجاء الأمر بنفيه إلى قضاء أميرداغ -رغم البراءة وتصديق محكمة التمييز- فسافر إليها في أغسطس/1944 وظل في أحد الفنادق أسبوعين لحين إيجار غرفة له، كان يدفع إيجارها.(4)(*)
________________
(1) قرار المحكمة بالبراءة بالإجماع برقم 199/136 في 15/6/1944 مع إعادة جميع الكتب المصادرة، أما قرار تصديق التمييز لقرار محكمة دنيزلي بالبراءة فهو برقم 30005/2193 في 30/12/1944 وتحت عدد 2019 فأصبحت بموجبه رسائل النور قضية محكمة.
(2) T. Hayat, Emirdağhayatı.
(3) الشعاعات، الشعاع الحادي عشر، خاتمة المسألة العاشرة.
(4) T.Hayat, Emirdağhayatı.
(*) كليات رسائل النور- سيرة ذاتية ص:354