خطاب إلى مجلس الأمة

 

[وفيما يلي نص البيان]:

خطاب إلى مجلس الأمة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إنَّ الصّلوةَ كانت على المؤمنينَ كتاباً مَوقُوتاً﴾(النساء:103)

يا أيها المبعوثون! إنكم لمبعوثون ليوم عظيم.

أيها المجاهدون! ويا أهل الحل والعقد!

أرجو أن تعيروا سمعاً إلى مسألة يُسديها إليكم هذا الفقير إلى الله في بضع نصائح وفي عشر كلمات:

اولاً: ان النعمة الإلهية العظمى في انتصاركم هذا تستوجب الشكر، لتستمر وتزيد، إذ ان لم تُستقبل النعمة بالشكر تزول وتنقطع. فمادمتم قد أنقذتم القرآن الكريم من إغارة العدو -بفضل الله تعالى- فعليكم اذاً الامتثال بأمره الصريح وهو الصلاة المكتوبة، كي يظل عليكم فيضهُ وتدوم أنواره بمثل هذه الصورة الخارقة.

ثانياً: لقد أبهجتم العالم الإسلامي بهذا الانتصار، وكسبتم ودّهم وإقبالهم عليكم، ولكن هذا الودّ والتوجّه نحوكم إنما يدومان بالتزام الشعائر الإسلامية؛ إذ يحبكم المسلمون ويودّونكم لأجل الإسلام.

ثالثاً: لقد توليتم قيادة مجاهدين وشهداء في هذا العالم وهم بمثابة أولياء صالحين، فمن شأن أمثالكم من الغيارى السعيُ والجدّ لامتثال أوامر القرآن الكريم لنيل صحبة أولئك النورانيين، والتشرف برفقتهم في ذلك العالم. وإلاّ تضطرون إلى التماس العون والمدد من أبسط جندي هناك، في حين انتم قادة هنا. فهذه الدنيا بما فيها من شهرة وشرف لا تستحق ان تكون متاعاً ترضي كراماً امثالكم، ولاتكون لكم غاية المنى ومبلغ العلم.

رابعاً: ان هذه الأمة الإسلامية مع أن قسماً منهم لا يؤدون الصلاة. الاّ انهم يتطلعون ان يكون رؤساؤهم صالحين أتقياء حتى لو كانوا هم فسقة. بل ان أول ما يبادر أهل كردستان -الولايات الشرقية- مسؤوليهم هو سؤالهم عن صلاتهم. فان كانوا مقيمين لها، فبها ونِعمَت ويثقون بهم، والاّ فسيظل الموظف المسؤول موضع شك وارتياب رغم كونه مقتدراً في أداء واجباته. ولقد حدثت في حينه اضطرابات في عشائر (بيت الشباب) فذهبتُ لأستقصي أسبابها، فقالوا:

ان كان مسؤولنا (القائمقام) لا يقيم الصلاة ويشرب الخمر، فكيف نطيع أوامر أمثال هؤلاء المارقين من الدين؟ هذا علماً ان الذين قالوا هذا الكلام هم أنفسهم كانوا لا يؤدون الصلاة، بل كانوا قطاع طرق!.

خامساً: ان ظهور اكثر الأنبياء في الشرق واغلب الفلاسفة في الغرب رمزٌ للقدر الإلهي بأن الذي يستنهض الشرق ويقوّمه إنما هو الدين والقلب، وليس العقل والفلسفة.. فمادمتم قد أيقظتم الشرق ونبهتموه، فامنحوهم نهجاً ينسجم مع فطرته. والاّ ستذهب مساعيكم هباءاً منثوراً، أو تظل سطحية موقتة.

سادساً: ان خصومكم وأعداء الإسلام الأفرنج - ولاسيما الانگليز - قد استغلوا ولا يزالون يستغلون إهمالكم أمور الدين، حتى أستطيع ان اقول: ان الذين يستغلون تهاونكم هذا يضرون بالإسلام بمثل ما يضرّ به أعداؤكم فينبغي لكم باسم مصلحة الإسلام وسلامة الأمة تحويل هذا الإهمال إلى أعمال. ولقد تبيّن لكم كيف لاقى زعماء الإتحاد والترقي نفوراً وازدراءً من الأمة في الداخل رغم ما بذلوه من تضحية وفداء وعزم وإقدام حتى كانوا سبباً - إلى حدٍ ما - في هذه اليقظة الإسلامية، وذلك لعدم اكتراث قسم منهم بالدين وبشعائره، بينما المسلمون في الخارج قد منحوهم التقدير والاحترام لعدم رؤيتهم تهاونهم وإهمالهم في الدين.

سابعاً: على الرغم من تمكن عالم الكفر في الإغارة على العالم الإسلامي منذ مدة مديدة فانه لم يتغلب عليه دينياً مع جميع إمكاناته وقدراته ووسائله الحضارية وفلسفته وعلمه ومبشريّه. فبقيت الفرق الضالة جميعها - في الداخل - أقلية محكومة. لذا ففي الوقت الذي حافظ الإسلام على صلابته ومتانته بأهل السنة والجماعة لن يتمكن تيار بدعي مترشح من الجانب الخبيث للحضارة الأوروبية، أن يجد سبيلاً إلى صدر العالم الإسلامي. أي أن القيام بحركة انقلابية جوهرية لا يمكن ان تحدث الاّ بالانقياد لدساتير الإسلام، والاّ فلا. علماً انه لم يحدث مثل هذه الحركة في السابق، ولو كانت قد حدثت فلقد تلاشت سريعاً وأفلَت.

ثامناً: ليس بالإمكان القيام بعمل إيجابي بنّاء مع التهاون في الدين، حيث اقتربت الحضارة القرآنية من الظهور وأوشكت الحضارة الأوربية الضالة المسؤولة عن ضعف الدين على التمزق والانهيار. أما القيام بعمل سلبي فليس الإسلام بحاجة إليه، كفاه ما تعرض له من جروح ومصائب.

تاسعاً: ان الذين يولونكم الحب قلباً وروحاً، ويثمنون خدماتكم وانتصاراتكم في (حرب الاستقلال) هذه، هم جمهور المؤمنين، وبخاصة طبقة العوام، وهم المسلمون الصادقون. فهم يحبونكم بجد، ويعتزون بكم بصدق، ويساندونكم بإخلاص، ويقدّرون تضحياتكم، ويمدّونكم بأضخم ما تنبه لديهم من قوة. وانتم بدوركم ينبغي لكم الاتصال بهم والاستناد إليهم اتباعاً لأوامر القرآن الكريم ولأجل مصلحة الإسلام، والاّ فان تفضيل المتجردين من الإسلام والمبتوتي الصلة بالأمة من مقلدي أوروبا المعجبين بها، وترجيحهم على عامة المسلمين منافٍ كلياً لمصلحة الإسلام؛ وسيولي العالم الإسلامي وجهه إلى جهة أخرى طلباً للمساعدة والعون.

عاشراً: ان كان في طريق تسعة احتمالات للهلاك، واحتمال واحد فقط للنجاة، فلا يسلكها الاّ مجنون طائش لا يبالي بحياته.. ففي أداء الفرائض الدينية نجاة بتسع وتسعين بالمائة، علما انه لا يستغرق - هذا الأداء - الاّ ساعة واحدة في اليوم، مقابل ما قد يمكن ان يكون احتمال ضرر واحد فقط يصيب الدنيا ومن حيث الغفلة والكسل. بينما إهمال الفرائض وتركها فيه احتمال تسع وتسعين بالمائة من الضرر مقابل واحد بالمائة من احتمال النجاة من حيث الغفلة والضلالة.. فيا ترى أي مسوّغٍ وأيّ مبرر يمكن ابتداعه في ترك الفرائض الذي يصيب ضرره الدين والدنيا معاً؟ وكيف تسمح حمية الفرد ونخوته بذلك التهاون؟

ان تصرفات هذه القافلة المجاهدة من أعضاء هذا المجلس العالي بالغة الأهمية، إذ إنها سوف تُقلّد.. فالأمة إما أنها تقلّد أخطاءهم او تنتقدها، وكلاهما ملئ بالأضرار والأخطار. لذا فأن تمسكهم بحقوق الله وتوجههم لأداء الفرائض يتضمن حقوق العباد ايضاً.

ان عملاً جاداً لا ينجز مع أولئك الذين يرضون بأوهام براقة نابعة من سفسطة النفس ووسوسة الشيطان ويصمّون آذانهم عن البلاغ المبين والبراهين الساطعة بالتواتر والإجماع.. ألا إن الحجر الأساس لهذا الانقلاب العظيم يجب ان يكون متيناً صلداً.

ان الشخصية المعنوية لهذا المجلس العالي قد تعهدت معنى (السلطنة) بما تتمتع به من قوة، فان لم يتعهد -هذا البرلمان- معنى (الخلافة) وكالةً ايضاً ولم يقم بامتثال الشعائر الإسلامية ولم يأمر الآخرين بالقيام بها، أي إذا اخفق في تقديم (معنى الخلافة) ولم يستوفحاجة الأمة الدينية -هذه الأمة التي لم تفسد فطرتها والمحتاجة إلى الدين اكثر من حاجتها لوسائل العيش- والتي لم تَنس حاجتها الروحية تحت كل ضغوط المدنية الحاضرة ولهوها، فإنها تضطر إلى منح معنى الخلافة إلى ما ارتضيتموه -تماماً- من اسم ولفظ. فتمنح له القوة والإسناد ايضاً لإدامة ذلك المعنى. والحال ان مثل هذه القوة التي ليست بيد المجلس ولا تأتي عن طريقه تسبب الانشقاق، وشق عصا الطاعة يناقض أمر القرآن الكريم الذي يقول:

﴿واعتَصموا بِحَبلِ الله جَميعاً ولا تَفرَّقوا﴾(آل عمران:103)

ان هذا العصر عصر الجماعة، إذ الشخصية المعنوية -التي هي روح الجماعة- اثبت وامتن من شخصية الفرد. وهي اكثر استطاعة على تنفيذ الأحكام الشرعية. فشخصية الخليفة تتمكن من القيام بوظائفها استناداً إلى هذه الروح المعنوية. ان الشخصية المعنوية تعكس روح العامة فان كانت مستقيمة فان إشراقها وتألقها يكون أسطع وألمع من شخصية الفرد، أما ان كانت فاسدة فان فسادها يستشري وفق ذلك. فالشر والخير محددان في الفرد، بينما لا يحدهما حدود في الجماعة. فإياكم ان تمحقوا المحاسن التي نلتموها تجاه الخارج بإبدالها شروراً في الداخل.

انتم اعلم بأن أعداءكم الدائمين وخصومكم يحاولون تدمير شعائر الإسلام، مما يستوجب عليكم إحياء هذه الشعائر والمحافظة عليها. وإلاّ فستُعينون -بغير شعورٍ منكم- العدو المتحفز للانقضاض عليكم.

ان التهاون في تطبيق الشعائر الدينية يفضي إلى ضعف الأمة، والضعف يُغرى العدو فيكم ويشجعه عليكم ولا يوقفه عند حدّه

حسبنا الله ونعم الوكيل.. نعم المولى ونعم النصير.(1) (*)

________________________

(1) المثنوي العربي النوري / 200-204

(*) كليات رسائل النور – سيرة ذاتية ص (183)

 

قرئت 16 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد