دروس وعبر من الهجرة النبوية

 

دروس وعبر من الهجرة النبوية

في البداية لابد من مقدمة عن مفهوم الهجرة في الإسلام

«إن الله عز وجل جعل قداسة الدين والعقيدة فوق كل شيء، فلا قيمة للأرض والوطن والمال والجاه إذا كانت العقيدة وشعائر الدين مهددة بالحرب أو الزوال، ولذا فرض الله على عباده أن يضحوا بكل ذلك- إذا اقتضى الأمر- في سبيل العقيدة والإسلام» .

و«إن سنّة الله تعالى في الكون اقتضت أن تكون القوى المعنوية التي تتمثل في العقيدة السليمة والدين الحق هي الحافظة للمكاسب والقوى المادية، فمهما كانت الأمة غنية في خلقها السليم متمسكة بدينها الصحيح فإن سلطانها المادي المتمثل في الوطن والمال والعزة يغدو أكثر تماسكا وأرسخ بقاء وأمنع جانبا. ومهما كانت فقيرة في أخلاقها مضطربة تائهة في عقيدتها فإن سلطانها المادي المتمثل فيما ذكرنا يغدو أقرب إلى الاضمحلال والزوال. والتاريخ أعظم شاهد على ذلك» .

ولذلك شرع الله عز وجل مبدأ التضحية بالمال والأرض في سبيل العقيدة والدين عندما يقتضي الأمر ذلك. فبه يضمن المسلمون لأنفسهم المال والوطن والحياة، وإن بدا لأول وهلة أنهم تعروا عن كل ذلك وفقدوه.

وحسبنا دليلا على هذه الحقيقة هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. لقد كانت بحسب الظاهر تركا للوطن وتضييعا له، ولكنها كانت في واقع الأمر حفاظا عليه وضمانة له، ورب مظهر من مظاهر الحفاظ على الشيء يبدو في صورة الترك له والإعراض عنه. فقد عاد بعد بضع سنوات من هجرته هذه- بفضل الدين الذي أقام صرحه ودولته- إلى وطنه الذي أخرج منه، عزيز الجانب، منيع القوة، دون أن يستطيع أحد من أولئك الذين تربصوا به ولا حقوه بقصد القتل أن يدنوا إليه بأي سوء..

نتأمل الآن في قصة هجرته عليه الصلاة والسلام لنستنبط منها الدلالات والأحكام الهامة لكل مسلم:

 

١- من أبرز ما يظهر لنا من قصة هجرته عليه الصلاة والسلام، استبقاؤه لأبي بكر رضي الله عنه دون غيره من الصحابة كي يكون رفيقه في هذه الرحلة.

وقد استنبط العلماء من ذلك مدى محبة الرسول صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر وأنه أقرب أصحابه إليه وأولاهم بالخلافة من بعده، ولقد عززت هذه الدلالة أمور كثيرة أخرى مثل استخلافه عليه الصلاة والسلام له في الصلاة بالناس عند مرضه وإصراره على أن لا يصلي عنه غيره. ومثل قوله في الحديث الصحيح: «لو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا» (1)

ولقد كان أبو بكر رضي الله عنه- كما رأينا- على مستوى هذه المزية التي أكرمه الله بها، فقد كان مثال الصاحب الصادق بل والمضحي بروحه وكل ما يملك من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولقد رأينا كيف أبى إلا أن يسبق رسول الله صلّى الله عليه وسلم في دخول الغار كي يجعل نفسه فداء له عليه الصلاة والسلام فيما إذا كان فيه سبع أو حية أو أي مكروه ينال الإنسان منه الأذى، ورأينا كيف جنّد أمواله وابنه وابنته ومولاه وراعي أغنامه في سبيل خدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذه الرحلة الشاقة الطويلة.

 

ولعمري، إن هذا هو الذي يجب أن يكون عليه حال كل مسلم آمن بالله ورسوله. ولذا يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (2)

 

٢- قد يخطر في بال المسلم أن يقارن بين هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهجرة النبي عليه الصلاة والسلام، ويتساءل: لماذا هاجر عمر علانية متحديا المشركين دون أي خوف ووجل، على حين هاجر رسول الله مستخفيا محتاطا لنفسه؟ أيكون عمر بن الخطاب أشد جرأة من النبي عليه الصلاة والسلام؟! ..

والجواب: أن عمر بن الخطاب أو أي مسلم آخر غير رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يعدّ تصرفه تصرفا شخصيا لا حجة تشريعية فيه، فله أن يتخير من الطرق والوسائل والأساليب ما يحلو له وما يتفق مع قوة جرأته وإيمانه بالله تعالى.

أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهو مشرّع، أي إن جميع تصرفاته المتعلقة بالدين تعتبر تشريعا لنا، ولذلك كانت سنته التي هي المصدر الثاني من مصادر التشريع مجموع أقواله وأفعاله وصفاته

وتقريره. فلو أنه فعل كما فعل عمر، لحسب الناس أن هذا هو الواجب! .. وأنه لا يجوز أخذ الحيطة والحذر، والتخفي عند الخوف. مع أن الله عز وجل أقام شريعته في هذه الدنيا على مقتضى الأسباب ومسبباتها، وإن كان الواقع الذي لا شك فيه أن ذلك بتسبيب الله تعالى وإرادته.

لأجل ذلك، استعمل الرسول صلّى الله عليه وسلم كل الأساليب والوسائل المادية التي يهتدي إليها العقل البشري في مثل هذا العمل، حتى لم يترك وسيلة من هذه الوسائل إلا اعتدّ بها واستعملها، فترك علي بن أبي طالب ينام في فراشه ويتغطى ببرده، واستعان بأحد المشركين- بعد أن أمنه- ليدله على الطرق الفرعية التي قد لا تخطر في بال الأعداء، وأقام في الغار ثلاثة أيام متخفيا، إلى آخر ما عبّأه من الاحتياطات المادية التي قد يفكر بها العقل، ليوضح بذلك أن الإيمان بالله عز وجل لا ينافي استعمال الأسباب المادية التي أراد الله عز وجل بعظيم حكمته أن يجعلها أسبابا.

وليس قيامه بذلك بسبب خوف في نفسه، أو شكّ في إمكان وقوعه في قبضة المشركين قبل وصوله المدينة. والدليل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام بعد ما استنفد الأسباب المادية كلها، وتحلق المشركون حول الغار الذي يختبئ فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصاحبه- بحيث لو نظر أحدهم عند قدمه لأبصر الرسول صلّى الله عليه وسلم- استبد الخوف بقلب أبي بكر رضي الله عنه على حين كان يطمئنه عليه الصلاة والسلام قائلا: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» ، ولقد كان من مقتضى اعتماده على كل تلك الاحتياطات أن يشعر بشيء من الخوف والجزع في تلك الحال.

لقد كان كل ما فعله من تلك الاحتياطات إذن، وظيفة تشريعية قام بها، فلما انتهى من أدائها، عاد قلبه مرتبطا بالله عز وجل معتمدا على حمايته وتوفيقه، ليعلم المسلمون أن الاعتماد في كل أمر لا ينبغي أن يكون إلا على الله عز وجل، ولكن لا ينافي ذلك احترام الأسباب التي جعلها الله في هذا الكون أسبابا.

ومن أبرز الأدلة على هذا الذي نقوله أيضا، حالته صلّى الله عليه وسلم عندما لحق به سراقة يريد قتله وأصبح على مقربة منه. لقد كان من مقتضى كل تلك الاحتياطات الهائلة التي قام بها أن يشعر بشيء من الخوف من هذا العدوّ الذي يجدّ في اللحاق به. ولكنه لم يشعر بشيء من ذلك، بل كان مستغرقا في قراءته ومناجاته لربه لأنه يعلم أن الله الذي أمره بالهجرة سيمنعه من الناس ويعصمه من شرّهم كما بيّن في كتابه المبين.

 

٣- وفي تخلف علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم في أداء الودائع التي كانت عنده إلى أصحابها دلالة باهرة على التناقض العجيب الذي كان المشركون واقعين فيه. ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويرونه ساحرا أو مخادعا لم يكونوا يجدون من حولهم من هو خير منه أمانة وصدقا،

فكانوا لا يضعون حوائجهم وأموالهم التي يخافون عليها إلا عنده! .. وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما هو بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق الذي جاء به وخوفا على زعامتهم وطغيانهم من اتباعه.

 

٤- ثم إننا نلمح في النشاط الذي كان يبذله عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه، ذاهبا آيبا بين الغار ومكة، يتحسس الأخبار وينقلها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبيه، وفيما بدا على أخته أسماء رضي الله عنها من مظاهر الاهتمام والجد في تهييء الزاد والراحلة واشتراكها في إعداد العدة لتلك الرحلة، نلمح في ذلك صورة مما يجب أن يكون عليه الشباب المسلم ذكورا وإناثا في سبيل الله عز وجل ومن أجل تحقيق مبادئ الإسلام وإقامة المجتمع الإسلامي. فلا يكفي أن يكون الإنسان منطويا على نفسه مقتصرا على عباداته، بل عليه أن يستنفد طاقاته وأوجه نشاطه كلها سعيا في سبيل الإسلام. وتلك هي مزية الشباب في حياة الإسلام والمسلمين في كل زمن وعصر.

وإذا تأملت فيمن كان حول النبي صلّى الله عليه وسلم إبان دعوته وجهاده، وجدت أن أغلبيتهم العظمى كانوا شبانا لم يتجاوزوا المرحلة الأولى من عمر شبابهم، ولم يألوا جهدا في تجنيد طاقاتهم وقوتهم من أجل نصرة الإسلام وإقامة مجتمعه.

 

٥- أمّا ما حدث لسراقة وفرسه وهو يلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم فينبغي أن لا يفوتنا أنها معجزة خارقة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم اتفق أئمة الحديث على صحتها ونقلها. وفي مقدمتهم البخاري ومسلم.

فأضفها إلى معجزاته الأخرى التي سبق الحديث عنها، فيما مضى.

 

٦- ومن أبرز المعجزات الخارقة في قصة هجرته عليه الصلاة والسلام خروجه صلّى الله عليه وسلم من بيته وقد أحاط به المشركون يتربصون به ليقتلوه، فقد علق النوم بأعينهم جميعا حتى لم يحس به أحد منهم، وكان من تتمة السخرية بتآمرهم على حياته ما امتلأت به رؤوسهم من التراب الذي ألقاه رسول الله عليها إذ خرج من بينهم وهو يتلو قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس ٣٦/ ٨] .

لقد كانت هذه المعجزة بمثابة الإعلان لهؤلاء المشركين وغيرهم في كل عصر ووقت، بأن ما قد يلاقيه الرسول وصحبه من ألوان الاضطهاد والعذاب على أيديهم مدة من الزمن في سبيل دينه، لا يعني أن الله قد تخلى عنهم وأن النصر قد ابتعد عن متناولهم. فلا ينبغي للمشركين وسائر أعداء الدين أن يفرحوا ويستبشروا بذلك، فإن نصر الله قريب وإن وسائل هذا النصر توشك أن تتحقق بين كل لحظة وأخرى.

 

٧- وتكشف لنا الصورة التي استقبلت بها المدينة المنورة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن مدى المحبة الشديدة التي كانت تفيض بها أفئدة الأنصار من أهل المدينة رجالا ونساء وأطفالا. لقد كانوا

يخرجون كل يوم إلى ظاهر المدينة ينتظرون تحت لفح الشمس وصول رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم، حتى إذا هبّ النهار ليدبر، عادوا أدراجهم ليعودوا إلى الانتظار صباح اليوم الثاني، فلما طلع الرسول عليهم جاشت العواطف في صدورهم وانطلقت ألسنتهم تهتف بالقصائد والأهازيج فرحا لمرآه عليه الصلاة والسلام ومقدمه عليهم، ولقد بادلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحبة ذاتها، حتى إنه جعل ينظر إلى ولائد بني النجار من حوله، وهن ينشدن ويتغنين بمقدمه، قائلا: «أتحببنني؟ والله إن قلبي ليحبكن» .

يدلنا كل ذلك أن محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليست في مجرد الاتّباع له، بل المحبة له هي أساس الاتباع وباعثه، فلولا المحبة العاطفية في القلب لما وجد وازع يحمل على الاتباع في العمل.

ولقد ضلّ قوم حسبوا أن محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس لها معنى إلا الاتباع والاقتداء. وفاتهم أن الاقتداء لا يأتي إلا بوازع ودافع، ولن تجد من وازع يحمل على الاتباع إلا المحبة القلبية التي تهز المشاعر وتستبد بالعواطف. ولذلك جعل الرسول صلّى الله عليه وسلم مقياس الإيمان بالله امتلاء القلب بمحبته عليه الصلاة والسلام، بحيث تغدو متغلبة على محبة الولد والوالد والناس أجمعين. وهذا يدلّ على أن محبة الرسول من جنس محبة الوالد والولد أي مصدر كل منهما العاطفة والقلب وإلا لم تصح المقارنة والمفاضلة بينهما.(*)

 

---------------------

(1) مسلم: ٧/ ١٠٥

(2) متفق عليه.

(*) فقه السنة النبوية

قرئت 18 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد