دلائل نقلية على وجود الروح

 

    إن أهم مصدر في بحث أية حقيقة كانت هو ((المتخصصين)). وان من إحدى الصفات المتميزة بل المهمة في المجتمعات الراقية هي احترام المتخصصين ورعايتهم لتقسيم الأعمال. والسبيل الوحيد للحصول على المعلومات الموثوقة والصحيحة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفكرية هو مراجعة رجال متخصصين قضوا حياتهم ومساعيهم في مجال معين. ومن المقتضيات عزة العلم هي احترام التخصص وهو ضروري عقلاً وديناً وحكمة ووجدانا.. ولهذا السبب ولأجل الحصول على إجابات صحيحة وموثوقة لأسئلة مثل :((ما هي الروح ولماذا خُلِقت؟)) ينبغي مراجعة ذوي الاختصاص في هذا المجال.

    والآن نتأمل: هل يستطيع العلم إعطائنا معلومات صحيحة وموثوقة تخص الروح وحقيقتها؟ ومن المعلوم إن العلوم النظرية تقوم على أساس دراسة المخلوقات عن طريق التجارب والاختبارات فتبحث عن ((كيف)) وقعت الحوادث ولكنها لا تقف عند (( لماذا)) وقعت الحوادث. فتبقى الروح والحقائق التابعة لها في هذه الحالة تبقى خارج ساحة فعالية العلوم النظرية.

    أما الفلسفة: فإنها تقف على ((لماذا)) وقعت الحوادث فتبحث عن اصل الأشياء وعن الإنسان وعن الخلق والأزل والأبد والروح. ولكن عندما ندقق تاريخ الفلسفة تظهر لنا شبهات ومتناقضات بعدد الفلاسفة. ففي هذه الحالة أي سبيل من سبل الفلاسفة يتبع، وكلام أي منهم يؤخذ بنظر الاعتبار؟ وفي الحقيقة أظهر اكثر الفلاسفة قبولهم بوجود الروح إلاّ انهم وقعوا في متناقضات كثيرة في حقيقة الروح وماهيتها وغاياتها فانحرفوا عن الحقيقة.

    إن الفلاسفة الذين يبحثون عن حقائق جميع الأشياء لو بحثوا بمقتضى وظائفهم عن الوحي ودققوا في معانيه وعلموا بحقائقها لاجتازوا الصعوبات الكبيرة التي تجابههم بسهولة ويسر،  ولتخلصوا من الأوهام ولكسبوا حق ريادة الناس وإرشادهم. 

    وعند تدقيقنا المذاهب الفلسفية نرى أن اغلب الفلاسفة لم يدخلوا تحت نور الوحي الإلهي. فتكلموا عن أشياء وحكموا عليها من عند أنفسهم مستغنين عن أحكام من سواهم في هذا الموضوع ظناً منهم أن لهم نصيبٌ في الخلق وانهم في درجة الكمال ولم يروا عجزهم وفقرهم ونقصهم أي انهم لم يتفكروا في هذه الحقائق: ((مَن خلقني؟)) ((ومَن صنعني؟)) ((ومَن يطعمني بتدبيره وعنايته؟)). ومن الجدير بالإعجاب إن هؤلاء الفلاسفة غافلين عن إن إنكارهم المعتمدة لديهم وإرادتهم مخلوقة مثلهم.

    ولاسيما فلاسفة الماركسيين والماديين فانهم ارسوا قواعد بنيان فلسفتهم على أسس من الحقد والاغبرار والإنكار فذهبوا إلى إنكار الله وإنكار الفطرة والروح والأخلاق الفاضلة وجميع الحقائق السامية، فعبدوا المادة وأرادوا بذلك تسلية أنفسهم وأنى لهذه الأرواح الخبيثة التي تعادي جميع العقائد والفضائل وتتلذذ بالإنكار والجمود بالتكلم عن الروح ؟.

    ففي هذه الحالة لا تعد العلوم النظرية ولا الفلاسفة من قبيل أهل التخصص في موضوع الروح. وان صاحب القول في هذا الموضوع هم الأنبياء (عليهم السلام) والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء. لأن أولئك الذوات لن يتكلموا من عند أنفسهم بل يترجمون الوحي الإلهي.

    ومن الأصول المقررة ((إن الصانع يعلم، والعاِلم يتكلم )) وبناءً على هذه القاعدة فالحكم الحقيقي والقاطع عن الروح إنما لخالق الروح.

    نعم إن صاحب المعمل هو صاحب القول في شؤونه وهو الوحيد الذي يُسأل عن عمل المعمل وغايته وله القول الفصل فيه. إذن فالمصدر الذي يتكلم عن الروح هو القرآن الكريم الذي هو منبع الحق ومعدن الحقائق. 

    نعم. إن القران الكريم هو شمس عالم المعنى وبه تتنور الأرواح وتنجو القلوب من الظلمات. وكما انه بديهي من أن الشمس تعطي ضوئها لجميع النباتات وبهذا الضوء تنمو هذه النباتات كذلك فان القرآن الكريم الذي هو شمس عالمنا المعنوي يعطي لأرواح تابعيه الانكشاف ولعقولهم الاستقامة ولقلوبهم النور. وهو النور الذي يضيء الماضي والحاضر والأبد. وهو الذي أزال ظلمات الجاهلية المتراكمة على القلوب من الإنكار واليأس والغم.  فعرفت العقول- التي دخلت تحت نور القرآن- سيدتها التي هي أرواحها وصدقتها إلى جانب انكشاف حقائق عديدة لها. وقد أثبتت تلك الشمس الأزلية وأظهرت وجود الروح للعقول السليمة وبقطعية لا ريب فيها.

    بعد هذه التفاصيل نكتفي بعدد من الآيات الكريمة تخص الروح:

1- } وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ { (البقرة:154)

    نفهم من هذه الآية الكريمة معنيين:

    الأول: رغم عدم رؤيتنا موت الجسد. يقول الله تعالى لنا لا تقولوا ((أموات)). بمعنى إن هناك ماهية لا تموت مع موت الجسد وهي الروح.

    الثاني: تبين الآية الكريمة بان كيفية تلك الحياة لا يعرفها إلاّ الذين يعيشونها.

    وبهذه الآية الجليلة يبين الله تعالى لنا بوضوح وجود حياة حقيقية لا ندركها بعقولنا وشعورنا.

2- } وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ { (آل عمران 169- 170).

    تخبرنا هذه الآيات عن وجود طبقة حياة أخرى وتحت عناية الله تعالى رغم موت الجسد. وان أهل هذه الطبقة من الحياة يُرزقون من نعيم الجنة بفرح وسرور. وبهذه الآية يبن لنا الحق سبحانه وتعالى بان الأرواح قائمة بذاتها ولا ترتبط بأجسادها وتبقى بعد موت الأجساد.

3- }إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً { (النساء:56)

    ففي هذه الآية الجليلة إشارة إلى مادة تفنى بالحرق وإلى حقيقة لا تفنى بالحرق. وان هذه الحقيقة هي الروح. فالروح ثابتة ولباسها- الذي هو الجسد- محكوم عليه الزوال. ونعلم جميعاً بأن جسدنا في تغيير مستمر منذ اللحظة التي خلقنا فيها، و تقابلها وجود حقيقة  ثابتة لا تتغير أبداً. فإذا كان الحال هكذا في الحياة الدنيا، فكيف بها في الحياة الأخرى فان إنكارها من البلاهة، ومثل مَن ينكرها كمَن ينكر هذه الحياة. 

4-  } وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلاًّ قَلِيلاً { (الإسراء:85).

     يتبين لنا في هذه الآية وجود الروح. وان ماهية هذه الروح وكيفيتها محجوبة عنا بأستار، وان علمنا في هذا المجال جزئي قليل. الاعتقاد بوجودها أمر معقول. أما التعمق في ماهيتها فانه تهور والاشتغال به عبث.

5- }النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ { (غافر:46).

    فلو لم تكن هناك حقيقة ثابتة رغم موت الجسد وتفسخه فكيف إن آل فرعون يعرضون على النار؟.

6-  }يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *  ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي { (الفجر27-30).

    في هذه الآية خطاب صريح وواضح إلى الروح. فلولا المخاطَب لم يكن الخطاب. والمطلوب من الروح هو الرضا والعبودية بينما لا يكون الطلب من ((لاشيء )).

7- }اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ { (الزمر:42)

    إن النفس التي قضى عليها الموت أو أرسلت إلى اجل مسمى في هذه الآية ليست سوى الروح.

    وللرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توضح معنى الروح. نسوق هنا قسماً منها.

     بيّن الرسول الكريم r- كما هو شأنه في جميع المواضيع- بنور الوحي الإلهي الإيضاح الكامل في موضوع الروح. فأقواله r كما هو ثابت باتفاق العقول السليمة هي المصدر الأمين في جميع الحقائق الإلهية وجميع أسرار ماهيات الأشياء بعد القرآن الكريم. لأن الرسول الكريم rوصل قاب قوسين أو أدنى. حيث اجتاز مراحل الإدراك التي لم يبلغها أي نبي من قبله ورأى يقيناً جميع الحقائق التي لم يشاهدها أي عارف بالله. حتى أن جبريل u وقف عند حد واجتازه الرسول rدون أن يزيغ بصره أو أن يطغى إلى أن وصل بين دائرة الإمكان والحدوث. وعلا إلى أفق الكمالات التي لم يبلغ إليها أي عارف قبله. ورأى المقامات العالية التي تدار منها جميع المكونات وسمع صرير أقلام كتابة مقدرات البشر.

    لقد أرسل الله تعالى محمدا rإلى العالمين لإرشادهم إلى طريق الحقيقة، وجعله نموذجاً للإنسانية جميعاً. وخصه من بين الأنبياء بالتفاتة كريمة من لدنه بجعله مظهراً لفيض كلي وشامل. لذا ينبغي علينا أن نصدّقه بكل ما ينطق به وكل ما ينطق به هو الحقيقة.

  • ( عن جابر بن عبدالله t قال قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي اخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء.  قال: يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره ) [1].

- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قالَ : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ r الأرواح جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ ) [2].     

- ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : إذا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يُصْعِدَانِهَا قَالَ حَمَّادٌ فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِهَا وَذَكَرَ الْمِسْكَ قَالَ وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الأرْضِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ فَيُنْطَلَقُ بِهِ إلى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَقُولُ انْطَلِقُوا بِهِ إلى آخِرِ الأجَلِ قَالَ وَإِنَّ الْكَافِرَ إذا خَرَجَتْ رُوحُهُ قَالَ حَمَّادٌ وَذَكَرَ مِنْ نَتْنِهَا وَذَكَرَ لَعْنًا وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ قَالَ فَيُقَالُ انْطَلِقُوا بِهِ إلى آخِرِ الأجَلِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا ) [3].

 - ( عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلاثٍ الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ) [4].

   - ( وقالَ ابْنِ عَبَّاسٍ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأوي إلى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ وَمَأْكَلِهِمْ وَحُسْنَ مُنْقَلَبِهِمْ قَالُوا يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا لِئَلاَّ يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلاَ يَنْكُلُوا عَنْ الْحَرْبِ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ عَلَى رَسُولِهِ r{ ولاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ } رواه الإمام احمد  [5] (*).

 

___________________

(1) كشف الخفاء1/265) (شرح المواهب اللدنية 1/46

(2) صحيح مسلم / 2638

(3) رواه مسلم (2872 )

(1) رواه الترمذي والإمام احمد .

(2) الروح لابن القيم ص55

(*) ما هي الروح ؟ تأليف الأستاذ محمد قرقنجي - ترجمة سامي سليمان عارف

قرئت 79 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد