رعاية حقوق الاباء والشيوخ

 

باسمه سبحانه

(وإن من شيءِ إلاّ يسبّحُ بحمده)

{وقضى ربُّك الاّ تعبدُوا الاّ ايّاهُ وبالوالِدَين إحساناً إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ اَحَدُهما أو كلاهما فلا تَقُلْ لَهُما اُفٍّ ولا تَنْهَرهُما وَقُل لهما قولاً كريماً *    واخفض لهما جناح الذلِّ من الرحمة وقل ربِّ ارحمهما كما ربَّياني صغيراً * ربُّكُم أعلمُ بما في نفوسِكُمْ ان تكونوا صالحين فانه كان للأوابين غفوراً} (الاسراء:23ـ25)

ايها الغافل، ويا من يسكن في بيته أب شيخ، او أم عجوز، او احد من ذوى قرباه، او اخ في الدين مقعد، او شخص عاجز عليل.. انظر الى هذه الاية الكريمة بدقة وامعان، انظر كيف ان آية واحدة تجلب للوالدين العجوزين خمسة انواع من الرحمة بصور مختلفة واشكال متعددة؟ نعم، ان اسمى حقيقة في الدنيا هي شفقة الامهات والآباء حيال اولادهم، وان أعلى الحقوق كذلك هو حق احترامهم مقابل تلك الشفقة والرأفة؛ ذلك لأنهم يضحّون بحياتهم فدىً لحياة اولادهم بكل لذة وسعادة. ولذلك فان كل ولد ـ ان لم تسقط انسانيته ولم ينقلب بعد الى وحش ـ لا بد ان يوقّر باخلاص اولئك الاحبة المحترمين، المضحين الصادقين ويقوم بخدمتهم خدمة صادقة، ويسعى لنيل رضاهم وادخال البهجة في قلوبهم. ان العم والعمة هما في حكم الاب، وان الخالة والخال في حكم الام. فاعلم ما اشد انعداماً للضمير

استثقال وجود هؤلاء الشيوخ الميامين واسترغاب موتهم! بل ما أشده من دناءة ووضاعة بالمرّة. اعلم هذا..واصحَ!

أجل افهم، ما اقذره من ظلم وما افظعه من انعدام للضمير ان يتمنى متمنٍ زوال الذي ضحى بحياته كلها في سبيل حياته هو!

ايها الانسان المبتلى بهموم العيش! اعلم ان عمود بركة بيتك ووسيلة الرحمة فيه، ودفع المصيبة عنه، انما هو ذلك الشيخ، او ذلك الاعمى من اقربائك الذي تستثقله. لا تقل ابداً: ان معيشتى ضنك، لا استطيع المداراة فيها!.. ذلك لانه لو لم تكن البركة المقبلة من وجوه اولئك، لكان ضنك معيشتك اكثر قطعاً. فخذ مني هذه الحقيقة، وصدّقها، فانني اعرف لها كثيراً من الادلة القاطعة، واستطيع ان احملك على التصديق بها كذلك. ولكن، لئلا يطول الامر فانني اوجزها. كن واثقاً جداً من كلامي هذا. أقسم بالله ان هذه الحقيقة هي في منتهى القطعية، حتى ان نفسي وشيطاني ايضاً قد استسلما امامها. فلا غرو ان الحقيقة التي اغاظت شيطاني واسكتته وحطمت عناد نفسي الامارة بالسوء لا بد انها تستطيع ان تقنعك ايضاً.

أجل؛ ان الخالق ذا الجلال والاكرام الذي هو الرحمن الرحيم وهو اللطيف الكريم ـ بشهادة ما في الكون اجمع ـ حينما يرسل الاطفال الى الدنيا فانه يرسل ارزاقهم عقبهم مباشرة في منتهى اللطف؛ كانقذاف ما في الاثداء وتفجيره كالينابيع الى افواههم، كذلك فان ارزاق العجزة ـ الذين دخلوا في عداد الاطفال بل هم احق بالمرحمة واحوج الى الرأفة ـ يرسلها لهم سبحانه وتعالى بصورة بَرَكَة، ولا يحمّل الاشحاء من الناس اعاشة هؤلاء ولا يدعها لهم. فالحقيقة التي تفيدها الايات الكريمة:{انّ الله هو الرزّاق ذو القوةِ المتين}(الذاريات :58).{وكأيّن من دابّةٍ لا تحمِلُ رِزقَها الله يرزُقها واياكم وهو السميع العليم }.(العنكبوت:60) حقيقة ذات كرم ينطق بها وينادى بلسان حال جميع المخلوقات المتنوعة من الاحياء. وليس الشيوخ الاقرباء وحدهم يأتيهم رزقهم رغداً بصورة بركة بل رزق حتى بعض المخلوقات التي وهبت لمصاحبة الانسان وصداقته كأمثال القطط. فان ارزاقها ترسل ضمن رزق الانسان، وتأتي بصورة بركة ايضاً. ومما يؤيد هذا، ما شاهدته بنفسي من مثال، هو:كانت لي حصة من الغذاء كل يوم ـ كما يعلم احبائي القريبون ـ قبل سنتين او ثلاث وهي نصف رغيف، وكان رغيف تلك القرية صغيراً، وكثيراً ما كان لا

يكفيني.. ثم جاءني أربع قطط ضيوفاً، وقد كفاني ذلك الغذاء وكفاهم. بل غالباً كانت تبقى منه فضلة وزيادة.

هذه الحالة قد تكررت عندي بحيث اعطتني قناعة تامة من أننى انا الذي كنت استفيد من بركات تلك القطط!وأنا اعلن اعلاناً قاطعاً الان ان تلك القطط ما كانت حملاً ولا عبئاً عليّ ولم تكن تبقى تحت منتي، وانما انا الذي كنت ابقى تحت منّتها.

ايها الانسان! ان حيواناً شبه مفترس يأتي ضيفاً الى بيت يكون محوراً للبركة، فكيف اذا حلّ في البيت من هو اكرم المخلوقات وهو الانسان؟ ومن هو اكملهم من بين الناس وهو المؤمن؟ ومن هو من العجزة والمعلولين المعمرين من بين اهل الايمان؟ ومن هو اكثر أهلاً للخدمة والمحبة من بين المعلولين والمعمّرين وأولى من يستحقونها وهم الاقربون؟ ومن هم اخلص صديق واصدق محب من بين هؤلاء الاقربين وهم الوالدان؟! كيف بهم اذا حلوا في البيت. فلك ان تقيس، ما اعظمها من وسيلة للبركة، ومن وساطة لجلب الرحمة ومن سبب لدفع المصيبة، كما يتضمنه معنى الحديث الشريف: لولا الشيوخ الركع لصبّ عليكم البلاء صباً.(1)

اذن ايها الانسان: تأمل .. واعتبر واعلم انك ان لم تمت فلا مناص من ان تصير شيخاً عجوزاً، فان لم تحترم والديك، فسيأتي عليك يوم لا يوقرك اولادك ولن يحترموك، وذلك بما اودع الله من سر في " الجزاء من جنس العمل". لذا.. ان كنت محباً لآخرتك فدونك كنزٌ عظيم الا وهو: اخدمهما ونل رضاهما. وان كنت تحب الدنيا فارضهما كذلك واشكر لهما. حتى تمضي حياتك براحة، وحتى يأتي رزقك ببركة من ورائهم.

والاّ .. فان استثقال هؤلاء وتمني موتهم وتجريح قلوبهم الرقيقة الحساسة يجعلك ممن تنطبق عليه حقيقة الاية الكريمة (خسر الدنيا والاخرة).

واذا كنت تريد رحمة الرحمن الرحيم فارحم ودائع ذلك الرحمن، وما استودعك في بيتك من أمانات.

كان لي اخ من اخوان الاخرة وهو "مصطفى جاووش"(2) وكنت أراه موفقاً في دينه ودنياه معاً. ولم اكن اعرف السر. ثم علمت سبب ذلك التوفيق وهو: ان هذا الرجل الصالح كان قد علم حقوق امه وابيه، وانه راعى تلك الحقوق حق رعايتها. فكان ان وجد الراحة والرحمة ببركة وجوههم. وارجو ان يكون قد عمّر آخرته كذلك ان شاء الله. فمن اراد ان يكون سعيداً فليقتد به، وليكن مثله.

اللهم صل وسلم على مَن قال:

[الجنةُ تحتَ اقدام الامهات](3)

وعلى آله وصحبه اجمعين.

(سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم) (*)

________________________________________

(1) (لولا عباد لله ركّع وصبية رضّع وبهائم رتّع لصبّ عليكم البلاء - وفي رواية العذاب -صباً رواه الطيالسي والطبراني وابن منده وابن عدى وغيرهم عن ابي هريرة رفعه… ورواه السيوطي في الجامع الصغير - الحديث نفسه -ثم رُصّ رصّاً، قال المناوي نقلاً عن الهيثمي 10/ 227. وهو ضعيف. (باختصار عن كشف الخفاء 2/163) - المترجم.

(2) مصطفى جاووش: اسمه الحقيقي خلوصي مصطفى ولد سنة 1882، خدم الاستاذ النورسي في بارلا وتوفي في شباط سنة 1939 عن سبعة وخمسين سنة من العمر. - المترجم.

(3) حديث (الجنة تحت اقدام الامهات): عزاه السيوطي في الجامع الصغير (3642) الى القضاعي والخطيب في الجامع وقال الحاكم صحيح الاسناد ووافقه الذهبي وأقره المنذري إلاّ أنه ضُعف بهذا اللفظ. انظر ضعيف الجامع الصغير وزيادته (2665) وكشف الخفاء(1/335). قلت: ويغني عنه مايلي:

عن معاوية جاهمة رضي ا عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليهوسلم"الزم رجلها فثمَّ الجنة". حسن : في صحيح الجامع الصغير وزيادته(1259): رواه ابن ماجة قال المحقق: حسن.

وعن جاهمة رضي الله عنه قال : قال رسول الله "الزمها فان الجنة تحت اقدامه" يعني الوالدة. حسن: في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1260) رواه أحمد والنسائي قال المحقق: حسن. وانظر كنـز العمال 16/461والديلمي مسند الفردوس 2/116

(*) المكتوب الحادي والعشرون - ص: 335

 

قرئت 17 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد