غير المغضوب عليهم ولا الضالين
قطرة نورية من كليات رسائل النورسي
بيان الطرق الثلاث المشار اليها في ختام سورة الفاتحة
يا اخي! يا من امتلأ صدره بالامل المشرق! امسكْ خيالك في يدك، وتعال معي.. نحن الآن في ارض واسعة، ننظر الى جوانبها، دون ان يرانا أحد، ولكن اُلقي علينا غيم اسود مظلم فهبط على جبالٍ شمٍ، حتى غطى وجه ارضنا بالظلمات، بل كأنه سقف صلب كثيف..الاّ انه سقف تُرى الشمس من جهته الاخرى.
ولكننا نحن تحت ذلك الغيم الكثيف، لا نكاد نطيق ضيق الظلمات، ويخنقنا الضجر والانقباض، ففقدان الهواء مميت!.
واذ نحن في هذه الحالة من الضيق الخانق انفتحت امامنا ثلاث طرق تؤدي الى ذلك العالم المضئ. ولقد اتيناه مرةً وشاهدناه من قبل. فمضينا من الطرق الثلاث، كل على انفراد:
* الطريق الاولى:
معظم الناس يمرون منها، فهي سياحة حول العالم؛ والسياحة تشدّنا اليها.. فها نحن ندرج في الطريق نسير مشياً على الاقدام.. فها تجابهنا بحار الرمال في هذه الصحراء الواسعة.. انظر كيف تغضب علينا. وتستطير غيظاً وتزجرنا زجراً.. وانظر الى امواجٍ كالجبال لهذا البحر العظيم.. انها تحتد علينا وها نحن في الجهة الاخرى.. والحمد للّه. نتنفس الصعداء.. نرى وجه الشمس المضئ. ولكن لا أحد يقدّر مدى ما قاسينا من اتعاب وآلام.
ولكن وا أسفى! لقد رجعنا مرة ثانية الى هذه الارض الموحشة التي اطبقت عليها الغيوم بالظلمات ونحن احوج ما نكون الى عالم مضئ يفتح بصيرتنا.
ان كنت ذا شجاعة فائقة فرافقني في الطريق المليئة بالمخاطر، سنخوضها بشجاعة.
وهي طريقنا الثانية:
نثقب طبيعة الارض، ننقب فيها لننفذ ونبلغ الجهة الاخرى. نمضي في انفاق فطرية في الارض والخوف يحيطنا.. فلقد شاهدتُ ــ في زمن ما ــ هذه الطريق ومضيت فيها بوجل واضطراب ولكن كانت في يدي آلة أو مادة تذيب ارض الطبيعة وتخرقها وتمهد السبيل.. تلك المادة اعطانيها القرآن الكريم في الطريق الثالثة.
يا اخي! لا تتركني. اتبعني. لا تخف ابداً. انظر فها امامك كهوف ومغارات كالانفاق تحت الارض، تنتظرنا وتسهّل لنا الطريق الى الجهة الاخرى.
لا تروعك صلابة الطبيعة، فان تحت ذلك الوجه العبوس القمطرير وجه مالكها الباسم. ان تلك المادة القرآنية مادة مشعة كالراديوم.
بشراك يا اخي! فلقد خرجنا الى العالم المنور.. انظر الى الارض الجميلة، والسماء اللطيفة المزينة.. الا ترفع رأسك يا أخي لتشاهد هذا الذي غطى وجه السماء كلها وسما عليها وعلى الغيوم. انه القرآن الكريم.. شجرة طوبى الجنة.. مدّت اغصانها الى ارجاء الكون كله. وما علينا الاّ التعلق بهذا الغصن المتدلي والتشبث به، فهو بقربنا ليأخذنا الى هناك.. الى تلك الشجرة السماوية الرفيعة.
ان الشريعة الغراء نموذج مصغر من تلك الشجرة المباركة.
فلقد كان باستطاعتنا اذن بلوغ ذلك العالم المضئ بتلك الطريق.. طريق الشريعة، من دون ان نرى صعوبة وكللاً.
بيد أننا اخطأنا السير. فلنرجع القهقرى الى ما كنا فيه لنسلك الطريق المستقيم.. فانظر فها هي:
* طريقنا الثالثة:
الداعية العظيم يقف منتصباً على هذه الشواهق الراسية.. انه ينادي مؤذناً بحيهلوا الى عالم النور.. انه يشترط علينا الدعاء والصلاة.. انه المؤذن الاعظم محمد الهاشمي صلى الله عليه وسلم .
انظر الى هذه الجبال.. جبال الهدى، وقد اخترقت الغيوم، انها تناطح السموات.
وانظر الى جبال الشريعة الشاهقة انها جمّلت وجه ارضنا وأزهرتها. وعلينا أن نحلّق بالهمة لنرى الضياء هناك ونرى نور الجمال.
نعم!فها هنا.. اُحُد التوحيد.. ذلك الجبل الحبيب العزيز.
وها هناك.. جودي الاسلام.. ذلك الجبل الاشم.. جبل السلامة والاطمئنان.
وها هو جبل القمر، القرآن الازهر.. يسيل منه زلال النيل. فاشرب هنيئاً ذلك الماء العذب السلسبيل.
فتبارك الله أحسن الخالقين. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
فيا اخي!
اطرح الآن الخيال، وتقلّد العقل.
ان الطريقين الاُوليين، هما طريق: " المغضوب عليهم والضالين " ففيهما مخاطر كثيرة، فهما شتاء دائم لا ربيع فيهما. بل ربما لا ينجو الاّ واحد من مائة شخص قد سلك فيهما.. كأفلاطون وسقراط.
أما الطريق الثالثة: فهي سهلة قصيرة، لأنها مستقيمة، الضعيف والقوي فيها سيّان. والكل يمكنه ان يمضي فيها.
أما أفضل الطرق واسلمها فهو:
ان يرزقك الله الشهادة أو شرف الجهاد.
فها نحن الآن على عتبة النتيجة.
ان الدهاء العلمي يسلك في الطريقين الأوليين.
أما الهدى القرآني، وهو الصراط المستقيم، فهو الطريق الثالثة فهي التي تبلغنا هناك.
اللّهم اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.آمين.(*)
_________________________
(*) كليات رسائل النور - الكلمات - اللوامع - ص: 888