لما قال القرآن (انزال الأنعام) ولم يقل خلق

 

السؤال :
لما قال القرآن (انزال الأنعام) ولم يقل خلق ؟

الجواب :
بِسْم الله الرّحمــن الرّحيم
{ وَأنزلَ لكُم مِن الأنعامِ ثمانيةَ أزواجٍ يَخْلُقُكُم في بُطونِ اُمّهاتِكُم خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلقٍ في ظُلُماتٍ ثَلـــث..} (الزمر:6 )
نعم، ان القرآن الكريم يقول في سورة الزمر: {وانزل لكم من الانعام ثمانية ازواج} ولا يقول: "وخلق لكم من الانعام ثمانية ازواج" وذلك للإفادة بان ثمانية ازواج من الحيوانات المباركة قد انزلت لكم وارسلت اليكم من خزينة الرحمة الإلهية وكأنها مرسلة من الجنة، لان تلك الحيوانات المباركة نعمة بجميع جهاتها للبشرية كافة. فمن أشعارها واوبارها يستفيد البدو في حلّهم وترحالهم، ومنها تنسج الملابس، ومن لحومها تهيأ ألذّ المأكولات، ومن ألبانها تستخرج أطيب الاطعمة، ومن جلودها تصنع الاحذية والنعال وغيرها من المواد النافعة، حتى ان روثها يكون رزقاً للنباتات ووقوداً للانسان. فكأن تلك الحيوانات المباركة قد تجسمت واصبحت النعمة بعينها والرحمة بنفسها. ولهذا اُطلق عليها اسم "الأنعام" مثلما اطلق على المطر اسم "الرحمة". فكأن الرحمة قد تجسمت مطراً والنعمة تجسدت في صور شتى من اشكال المعزى والضأن والبقر والجاموس والابل.
وعلى الرغم من ان موادها الجسمانية تُخلق في الارض، فان صفة النعمة ومعنى الرحمة قد غلبتا واستحوذتا على مادتها، فعبّر القرآن عنها بـ "انزلن" الذي يفيد: ان الخالق قد أنزل هذه الحيوانات المباركة من خزينة الرحمة مباشرة، اي ان الخالق الرحيم قد ارسلها من مرتبة رحمته الرفيعة، ومن جنته المعنوية العالية، هدية الى وجه الارض بلا وساطة.
نعم، تُدرج احياناً صنعةٌ تقدّر بخمس ليرات في مادة لا تساوي خمسة قروش، فلا تؤخذ مادة الشئ بنظر الاعتبار، بل تعطى الاهمية للصنعة الموجودة عليها،كالصنعة الربانية العظيمة الموجودة في الجرم الصغير للذباب. واحياناً تكون صنعة زهيدة في مادة ثمينة، فالحكم عندئذٍ للمادة.
على غرار هذا المثال: فان مادة جسمانية قد تحمل من معاني الرحمة ومعاني النعمة الكثيرة بحيث تفوق مائة مرة في الاهمية على مادتها. حتى لكأن مادة ذلك الشئ تختفي وتنزوي امام عظم اهمية النعمة والرحمة، لذا فالحكم هنا يتوجه الى حيث النعمة.
وكما تخفي المنافع العظيمة للحديد وفوائده الكثيرة مادتَه المادية، فان النعمة الموجودة في كل جزء من اجزاء هذه الحيوانات المباركة المذكورة كأنها قد قلبت مادتها الجسمانية الى نعمة، فأُخذت صفاتها المعنوية بنظر الاعتبار دون مادتها الجسمانية.لذا عُبّرت عنها في الاية الكريمة "وانزل ... وانزلن".
نعم، ان عبارة "وانزل.. وانزلن" كما تفيد النكات السابقة من حيث الحقيقة فانها تفيد ايضاً معنى بلاغياً مهماً إفادة معجزة. وذلك :
ان منح الحديد خواص مميزة، كوجوده في كل مكان، وسهولة تليينه كالعجين، نعمة إلهية.حيث يمكن الحصول عليه واستعماله في كل عمل رغم صلابته واختفائه ووجوده في الاعماق فطرة، لذا فان التعبير بـ {وانزلنا الحديد}انما يبين هذا المعنى اي كأن الحديد نعمة من النعم الفطرية السماوية التي يمكن الحصول عليها بيسر، وكأن مادة الحديد تنزل من مصنع علوي رفيع وتسلّم بيد الانسان بسهولة.
وكذلك الحيوانات الضخمة كالبقر والجاموس والابل وغيرها من المخلوقات الجسيمة، مسخّرة وذليلة ومطيعة ومنقادة حتى لصبي صغير ، اذ تسلم قيادها له وتطيعه. لذا فالتعبير بـ{وانزل لكم من الانعام} يفيد ان هذه الحيوانات المباركة ليست حيوانات دنيوية يُستوحش منها وتلحق بنا الضرر كالبعوض والحية والعقرب والذئب والسبع وما شابهها من الضوارى المفترسة، بل كأنها حيوانات آتية من جنة معنوية، لها منافع جليلة، ولا يأتي منها ضرر، بل كأنها تنزل من الاعلى ، اي من خزينة الرحمة.
ولعل المقصود من قول بعض المفسرين: ان هذه الحيوانات قد اُنزلت من الجنة ناشئ من هذا المعنى المذكور(1).
ان كتابة صحيفة كاملة حول ايضاح ما في حرف واحد من القرآن الكريم من مسائل ونكات لا تعد اطناباً، فليس اذن من الاسراف في شئ كتابتنا ثلاث صفحات لبيان نكات العبارة القرآنية "انزلن". بل قد يكون احياناً حرف واحد من القرآن الكريم مفتاحاً لخزينة معنوية عظيمة.
_______________
(1) لقد قال بعض المفسرين : ان مبادى هذه الحيوانات قد أتت من السموات. ومرادهم في ذلك: ان بقاء هذه الحيوانات المسماة بالأنعام، انما هو بالرزق، وان ارزاقها هي الاعشاب والنباتات، ورزق الاعشاب آت من المطر، والمطر باعث على الحياة ورحمة نازلة من السماء، فالرزق آت من السموات. والآية الكريمة ( وفي السماء رزقكم)(الذاريات:22) تشير الى هذا المعنى. اذ لما كانت ادامة اجسام الحيوانات المتجددة هي بالمطر النازل من السموات، فان التعبير بـ »انزلنا« هو في موضعه اللائق - المؤلف.
(*) كليات رسائل النور - اللمعة الثامنة والعشرون - ص: 425

قرئت 112 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد