مصيّر ليل البشر نهاراً
باسمه سبحانه
أيها المستخلف المبارك
رشحة من بحر معرفة النبي صلى الله عليه وسلم
انظر! الى هذا الشخص النوراني كيف ينشر من الحقيقة ضياءً نَوّاراً، ومن الحق نوراً مضيئاً! حتى صيّر ليل البشر نهاراً وشتاءه ربيعاً، فكأن الكائنات تبدل شكلُها فصار العالم ضاحكاً مسروراً بعدما كان عبوساً قمطريراً.
إذ: اذا لم نستضئ بنوره نرى في الكائنات مأتماً عمومياً، ونرى موجوداتها كالاجانب والاعداء، لايعرف بعضٌ بعضاً، بل يعاديه؛ ونرى جامداتها جنائز دهاشة، ونرى حيواناتها واناسيها ايتاماً باكين بضربات الزوال والفراق. ونرى الكائنات بحركاتها وتنوعاتها وتغيّراتها ونقوشها ملعبة التصادف منجرة الى العبثية مهملة لامعنى لها. ونرى الانسان قد صار بعَجزه المزعج وفقره المعجز وعقله الناقل لأحزان الماضي ومخاوف المستقبل الى رأس الانسان، ادنى واخسر من جميع الحيوانات. فهذه هي ماهية الكائنات عند مَن لم يدخل في دائرة نوره.
فانظر الآن بنوره، وبمرصاد دينه، وفي دائرة شريعته، الى الكائنات كيف تراها؟ انظر! قد تبدل شكلُ العالم، فتحول بيتُ المأتم العمومي مسجدَ الذكر والفكر ومجلس الجذبة والشكر.. وتحول الاعداء الاجانب من الموجودات احباباً واخواناً.. وتحول كلّ من جامداتها الميتة الصامتة حياً مؤنساً مأموراً مسخراً، ناطقاً بلسان حاله آيات خالقه، وتحول ذوو الحياة منها - الايتام الباكون المشتكون - ذاكرين في تسبيحاتهم، شاكرين لترخيصاتهم عن وظائفهم.. وتحولت حركات الكائنات وتنوعاتها وتغيراتها من العبثية والمهملية وملعبة التصادف الى صيرورتها مكتوبات ربانية وصحائف آيات تكوينية ومرايا اسماءٍ إلهية، حتى ترقى العالمُ وصار كتاب الحكمة الصمدانية.
وانظر الى الانسان كيف ترقى من حضيض الحيوانية العاجزة الفقيرة الذليلة الى اوج الخلافة، بقوة ضعفه، وقدرة عجزه، وسَوق فقره، وشوق فاقته، وشوكة عبوديته، وشعلة قلبه وحشمة ايمان عقله. ثم انظر كيف صارت اسبابُ سقوطه من العجز والفقر والعقل اسبابَ صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني!
ثم انظر الى الماضي، ذلك المزار (1) الاكبر في ظلماته، كيف استضاء بشموس الانبياء وبنجوم الاولياء! والى الاستقبال تلك الليلة الليلاء في ظلماته، كيف تنور بضياء القرآن وتكشف عن بساتين الجنان!.
فعلى هذا؛ لو لم يوجَد هذا الشخص لسقطت الكائناتُ والانسانُ، وكل شئ الى درجة العدم، لاقيمة ولااهمية لها، فيلزم لمثل هذه الكائنات البديعة الجميلة من
مثل هذا الشخص الخارق الفائق المعرِّف المحقق، فاذا لم يكن هذا فلا تكن الكائنات، اذ لامعنى لها بالنسبة الينا. فما اصدق ما قالَ مَنْ " قوله الحق وله الملك " : (لولاكَ لَولاكَ لَما خَلقتُ الاَفلاكَ).. (2) (*)
_______________
(1) المقبرة.
(2) اي: ان هذا حديث قدسي. وقد تكلم علماء محققون حول هذا الحديث ، فمنهم من اقره، ومنهم من ضعفه ومنهم من انكره ولعلّ قول على القاري في شرح الشفا (1 / 6) يعدّ خلاصة جيدة، اذ يقول:"انه صحيح معنىً ولو ضعف مبنى " وايده ابن تيمية من حيث صحة معناه في الفتاوى ( 11 / 96 - 98)
(*) كليات رسائل النور- المثنوي العربي النوري ص:57