معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في بركة الطعام

 

نشير الى بضع امثلة من المعجزات النبوية التي تخص بركة الطعام وثبتت بروايات صحيحة قاطعة وبالتواتر المعنوي. ونرى من الأنسب ان نقدّم بين يديها مقدمة.

المقدمة

ان الامثلة التي سترد حول معجزة بركة الطعام كل منها قد روي بطرق متعددة، بل ان قسماً منها روي بستة عشر طريقاً، وقد وقع

معظم هذه الامثلة امام جماعة غفيرة من الصحابة الكرام المنزّهين عن الكذب والذين لهم المنزلة الرفيعة في الصدق والامانة.

مثال للتوضيح:

يروي احدهم انه: اكل سبعون رجلاً من صاعٍ(2) وشبعوا جميعاً. فالرجال السبعون يسمعون هذه الرواية التي يحكيها احدهم، ثم لا يخالفونه ولا ينكرون عليه، اي أنهم يصدّقونه بسكوتهم.

فالصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم اجمعين كانوا في ذروة الصدق والحق حيث انهم عاشوا في خير القرون وهم محفوظون من الاغضاء على الباطل، فلو كان يرى احدهم شيئاً ولو يسيراً من الكذب في اي كلام كان لما وسعه السكوت عليه قطعاً، بل كان يردّه حتماً.

لذا فالروايات التي نذكرها فضلاً عن انها رويت بطرق متعددة فقد سكت عنها الآخرون تصديقاً بها، اي كأن الجماعة قد رووها فالساكت منهم كالناطق بها فهي اذن تفيد القطعية كالمتواتر المعنوي.

ويشهد التأريخ ـ والسيرة خاصة ـ أن الصحابة الكرام قد وقفوا أنفسهم بعد حفظ القرآن الكريم لحفظ الحديث الشريف، أي حفظ احواله صلى الله عليه وسلم وافعاله واقواله، سواء منها المتعلقة بالاحكام الشرعية أم بالمعجزات، ولم يهملوا ـ جزاهم الله خيراً ـ اية حركة مهما كانت صغيرة من سيرته المباركة، بل اعتنوا بها وبروايتها، ودوّنوها في مدوّنات لديهم، ولا سيما العبادلة السبعة وبخاصة ترجمـان القرآن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهكذا حُفظت الاحاديث في عهد الصحابة الكرام حتى جاء كبار التابعين بعد ثلاثين أو أربعين سنة فتسلّموها غضةً طريةً منهم وحفظوها بكل امانة واخلاص، فكتبوها ونقلها عنهم بعد ذلك الائمة المجتهدون وألوف المحققين والمحدّثين وحفظوها بالكتابة والتدوين، ثم تسلّمها ـ بعد مضي مائتي سنة من الهجرة ـ اصحاب الكتب الستة الصحيحة المعروفة وفي مقدمتهم البخاري ومسلم، ثم جاء دور النقّاد واهل الجرح والتعديل، وبرز منهم متشددون ـ امثال ابن الجوزي ـ فميّزوا الاحاديث الموضوعة التي دسّها بعض الملاحدة وجهلة الناس على الاحاديث الصحيحة. ثم اعقبهم علماء أفاضل ذوو تقوى وورع امثال جلال الدين السيوطي وهو العلاّمة الامام الذي تشرف بمحاورة الرسول صلى الله عليه وسلم فتمثل له في اليقظة سبعين مرة ــ كما يصدّقه أهل الكشف من الاولياء الصالحين ـ فميّزوا جواهر الاحاديث الصحيحة من سائر الكلام والموضوعات.

وهكذا ترى ان الاحاديث ـ والمعجزات التي سنبحث عنها ــ قد انتقلت الينا سليمة صحيحة بعد ان تسلّمها مالا يعد ولا يحصى من الأيدي الأمينة (فالحمدلله، هذا من فضل ربي).

وعليه فلا ينبغي أن يخطر بالبال: كيف نعرف أن هذه الحوادث التي حدثت منذ مدة سحيقة قد ظلت مصونة سالمة من يد العبث؟

أمثلة حول معجزات بركة الطعام:

المثال الأول:

- اتفقت الصحاح الستة، وفي مقدمتها البخاري ومسلم في حديث أنس رضي الله عنه (قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عروساً بزينب، فعَمِدَتْ أمي أمّ سُلَيم الى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيساً فجعلته في تور(3) فقالت: يا أنس! اذهب بهذا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل بعثتْ بهذا اليكَ امي، وهي تقرئك السلام، وتقول: ان هذا لك منّا قليل يا رسول الله! فذهبت فقلت)، فقال: (ضعْهُ) ثم قال: (اذهب فادعُ لي فلاناً) وفلانا وفلاناً رجالاً سمّاهم (وادعُ مَن لقيتَ) فدعوتُ مَن سمّى ومَن لقيتُ فرجعتُ فاذا البيت غاص باهله، قيل لأنس: عددكم كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمئة. فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله ثم جعل يدعو عشرةً عشرةً يأكلون منه، ويقول لهم: (اذكروا اسم الله، وليأكل كلُّ رجل مما يليه) قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة،

ودخلت طائفة، حتى اكلوا كلهم قال لي: (يا أنس! ارفع) فرفعتُ، فما ادرى حين وضعتُ كان اكثر ام حين رفعتُ(4).

المثال الثاني:

- نزل النبي صلى الله عليه وسلم ضيفاً عند ابي ايوب الانصاري فذات يوم (صنعَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولابي بكر رضي الله عنه من الطعام زُهاء ما يكفيهما. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ ثلاثين من أشرافِ الانصار! فدعاهم فأكلوا حتى تركوا. ثم قال: ادعُ ستين، فكان مثلُ ذلك، ثم قال: ادعُ سبعين فاكلوا حتى تركوه، وما خرج منهم أحدٌ حتى اسلم وبايع، قال ابو ايوب: فأكل من طعامي مئة وثمانون رجلاً)(5).

المثال الثالث:

- (حديث سلمة بن الاكوع، وابو هريرة، وعمر بن الخطاب (وابو عمرة الانصاري رضي الله عنهم، فذكروا مخمصة أصابت الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فدعا ببقية الازواد(6)، فجاء الرجل بالحَثْية من الطعام، وفوق ذلك ، واعلاهم الذي اتي بالصاع من التمر، فَجَمعه على نطْعٍ. قال سلمة: فحرزته، كَربضةِ العنز، ثم دعا الناس باوعيتهم، فما بقي في الجيش وعاء الاّ ملأوه، وبقي منه قدر ما جُعل واكثر، ولو ورده أهلُ الارض لكفاهم)(7).

المثال الرابع:

 ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم أن عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومئة) في سفر (وذكر في الحديث أنه عُجن صاعٌ من طعام، وصُنعَت شاةٌ فشويَ سواد بطنها قال: وايم الله ما من الثلاثين ومئة الاّ وقد حزَّ لهُ حزّةً من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتين فاكلنا اجمعون، وفضل في القصعتين، فحملته على البعير)(8).

المثال الخامس:

ثبت في الصحاح أيضاً:

- (حديث جابر في اطعامه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير وعناق(9) وقال جابر: فاُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وان بُرمَتنا لتَغُط كما هي وان عجيننا ليخبز)(10) وكان الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم قد وضع في ذلك العجين والقدر من ماء فيه المبارك ودعا بالبركة. فيعلن جابر مقسماً بالله معجزة البركة هذه في حضور الف من الصحابة مُظهراً علاقتهم بها.

فهذه الرواية قطعية وكأن الف رجل قد رواها.

المثال السادس:

- وثبت في الصحاح أن ابا طلحة عمَّ خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنس رضي الله عنه يقول:

ان الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم اطعَمَ مما أتى به أنسُ تحت ابطه من قليل خبز شعير زهاء ثمانين رجلاً حتى شبعوا. وكان صلى الله عليه وسلم أمر بأن يجعل ذلك الخبز ارباً ارباً، ودعا بالبركة، وان البيت ضاق بهم فكانوا يأكلون عشرة عشرة، ورجعوا كلهم شباعاً(11).

المثال السابع:

- ثبت في صحيح مسلم والشفا وغيرهما ان جابراً الانصاري يقول: (ان رجلاً اتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فاطعَمَه شطر وَسْق شعير، فما زال يأكل منه هو وأمراتُه وضيفه حتى كالَه) ليعرفوا ما نقصَ منه، فرأوا أنه زالت منه البركة، وصار ينقص شيئاً فشيئاً. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: (لو لم تَكِلْهُ لأكلتم منه ولقام بكم)(12).

المثال الثامن:

- تبين الصحاح كالترمذي والنسائي والبيهقي وكتاب الشفاء (عن سمرة بن جندب: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقصعةٍ فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون)(13).

وبناء على ما ذكرناه في المقدمة، هذه الواقعة الواردة في البركة ليست رواية سمرة فقط، بل كأنه ممثلٌ عن تلك الجماعات التي أكلت من ذلك الطعام. فيعلن هذه الرواية بدلاً منهم.

المثال التاسع:

- يروى رجال ثقاة كصاحب الشفاء وابن أبي شيبة والطبراني بسند جيد وعلماء محققون: (عن ابي هريرة: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم ان ادعوَ له اهلَ الصفة) وهم فقراء المهاجرين الذين كان ينوف عددهم على مائة. والذين كانوا قد اتخذوا الصفّة في المسجد مأوىً لهم ( فتتبَّعتُهم حتى جمعتُهم. فوُضعَت بين ايدينا صفحةٌ، فأكلنا ما شئنا، وفرغنا، وهي مثلها حين وُضعت، الاَّ أن فيها أثر الاصابع)(14).

فابو هريرة يدلي بهذا الخبر باسم اصحاب الصفة مستنداً الى تصديقهم. فهي رواية قطعية اذاً وكأن جميع أهل الصفة رووها. فهل يمكن ان يكون هذا الخبر خلاف الحق والصواب ثم لا ينكر عليه اولئك الصادقون الكاملون ولا يردّونه؟.

المثال العاشر:

- ثبت برواية صحيحة أن الامام علياً رضي الله عنه قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بني عبد المطلب وكانوا أربعين، منهم قومٌ يأكلون الجدعة ويشربون الفرق) اي منهم من يأكل فرع الجمل ويشرب اربع اوقيات من الحليب (فصنع لهم مُدّاً من طعامٍ فأكلوا حتى شبعوا وبقي كما هو، ثم دعا بعسّ) اي اناء من خشب حليباً يكفى لثلاثة أو اربعة (فشربوا حتى رووا. وبقي كأنه لم يشرب)(15).

فهذا مثال واحد لمعجزة بركة الطعام وهو بقطعية شجاعة علي رضي الله عنه وصدقه.

المثال الحادي عشر:

- ثبت برواية صحيحة (في انكاح النبي صلى الله عليه وسلم لعلي فاطمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً بقصعة من اربعة امدادٍ أو خمسة ويذبح جزوراً(16) لوليمتها. قال: فاتيته بذلك فطعن في رأسها، ثم ادخل الناس رُفقة رفقة يأكلون منها، حتى فرغوا، وبقيت منها فضلةٌ، فبرّك فيها وأمر بحملها الى ازواجه، وقال: (كلن واطعمن مَن غشيكن)(17) حقاً! ان مثل هذا الزواج الميمون لحريٌّ بمثل هذه المعجزة في البركة.

المثال الثاني عشر:

- روى جعفر الصادق عن ابيه محمد الباقر عن ابيه زين العابدين عن علي رضي الله عنه: (ان فاطمة طبخت قدراً لغذائهما ووجّهت علياً الى النبي صلى الله عليه وسلم ليتغذى معهما، فأمرها فغرفت منها لجميع نسائه صفحةً صفحة ثم له صلى الله عليه وسلم ولعلي ثم لها ثم رفعت القدر وانها لتفيض، قالت: فأكلنا منها ما شاء الله)(18).

فعجباً من أمرك ايها الانسان لِمَ لا تصدّق بهذه المعجزة الباهرة تصديق شهود بعد ما سمعت ان رواتها من السلسلة الطاهرة، حتى الشيطان نفسه لا يجد سبيلاً لأنكارها!

المثال الثالث عشر:

- روى الائمة امثال ابي داود وأحمد ابن حنبل والبيهقي عن دُكَين الأحمسي بن سعيد المزين، وعن الصحابي الذي تشرف هو واخوته الستة بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو نعمان بن مقرن الأحمسي المزين، ومن رواية جرير ومن طرق متعددة ان الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: (أمر عمر بن الخطاب ان يزود اربعمائة راكب من أحمس. فقال: يا رسول الله ما هي الاّ أصوع(19) قال: اذهب، فذهب فزوَّدهم منه. وكان قدر الفصيل الرابض من التمر، وبقي بحاله)(20).

هكذا وقعت معجزة البركة هذه، وهي تتعلق باربعمائة رجل، لا سيما بعمر رضي الله عنه. فهؤلاء جميعاً هم الرواة لأن سكوتهم حتماً تصديق للرواية. فلا تقل انها خبر آحاد ثم تمضي الى شأنك فأمثال هذه الحوادث وان كانت خبر آحاد، الاّ انها تورث الطمأنينة في القلب لانها بمثابة التواتر المعنوي.

المثال الرابع عشر:

- ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم حديث جابر رضي الله عنه (في دَين أبيه، وقد كان بَذَل لغرماء أبيه أصلَ مالِهِ ليقبلوه ولم يكن في ثمرها سنتين كفافُ دَينهم، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمره بجدِّها ــ أي قطعها ــ وجعلها بيادر في أصولها، فمشى فيها ودعا، فأوفي منه جابر غُرماء ابيه وفَضَل مثل ما كانوا يجدُّون كل سنة، وفي رواية مثل ما اعطاهم، قال: وكان الغرماء يهودَ فعجبوا من ذلك)(21).

وهكذا فهذه المعجزة الباهرة في بركة الطعام ليست برواية يرويها جابر واشخاص معدودون فقط وانما هي متواترة من حيث المعنى يرويها جميع هؤلاء الرواة ممثلين لكلّ من تتعلق به هذه الرواية.

المثال الخامس عشر:

- يروى العلماء المحققون رواية صحيحة، وفي مقدمتهم الأمام الترمذي والبيهقي، عن ابي هريرة رضى الله عنه انه قال: أصاب

الناس مخمصةٌ في احدى الغزوات ــ وفي رواية في غزوة تبوك ـ (فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل من شئ؟ قلتُ: نعم شئٌ من التمر في المزود(22)) وفي رواية خمس عشرة تمرة (قال فأتني به، فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ودعا بالبركة. ثم قال ادعُ عشرة، فأكلوا حتى شبعوا، ثم عشرة كذلك، حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا، قال: خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض منه ولا تكبَّه، فقبضتُ على أكثر مما جئتُ به، فأكلت منه وأطعمت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة ابي بكر وعمر الى أن قُتل عثمان فانتهبَ مني فذهب. وفي رواية فقد حملتُ من ذلك التمر كذا وكذا من وسق في سبيل الله)(23).

وهكذا، فان معجزة البركة التي يرويها ابو هريرة، وهو الذي تتلمذ على معلم الكون وسيده محمد صلى الله عليه وسلم ولازم مدرسة الصفة وبزّ فيها بالحفظ بدعاء النبي له، فهذا الصحابي الجليل يروي هذه الرواية في مجمع من الناس ــ كغزوة تبوك ــ فلا بد ان تكون هذه الرواية متواترة من حيث المعنى، وقوية متينة بقوة الجيش كله اي كما لو كان الجيش كله يرويها.

المثال السادس عشر:

- ثبت في صحيح البخاري والصحاح الاخرى: ان الجوع اصاب ابا هريرة، (فاستَتَبعَه النبي صلى الله عليه وسلم ، فوجد لبناً في قدح أهدي اليه، وأمره أن يدعو أهل الصفة. قال: فقلتُ ما هذا اللبن فيهم، كنت أحقَّ أن اصيب منه شربةً أتقوى بها، فدعوتُهم)، وكانوا ينوفون على المائة، فأمر صلى الله عليه وسلم أن اسقيهم (فجعلتُ اُعطي الرجل فيشرب حتى يروى. ثم يأخذه الآخر حتى رَوِى جميعهم قال: فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم القدحَ وقال: بقيتُ انا وانت، اقعد فاشرب. فشربت ثم قال: اشرب. وما زال يقولها وأشربُ حتى قُلت: لا، والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً. فأخذ القدح وحمد الله وسمّى وشرب الفضلة)(24). فهنيئاً لك مائة الف مرة يا رسول الله.

فهذه المعجزة السليمة من شوائب الشك والخالصة اللطيفة كاللبن قد روتها كتب الصحاح وفي مقدمتها صحيح الامام البخاري الذي كان حافظاً لخمسمائة الف حديث. فهي اذن رواية لا ريب فيها قط وصادقة وثابتة كأنها مشهودة رأي العين، مثلما رواها تلميذ المدرسة الأحمدية المقدسة، مدرسة الصفّة، ذلك التلميذ الموثوق الحافظ ابو هريرة، رواها باسم اصحاب الصفة جميعهم وأشهدهم عليها.

فالذي لا يتلقى هذا الخبر تلقياً كأنه يشاهده، فهو إما فاسد القلب أو فاقد العقل.

تُرى هل من الممكن أن صحابياً جليلاً مثل ابي هريرة الصادق الذي بذل حياته في حفظ الحديث النبوي، أن يحط من قيمة ما حفظه من الاحاديث النبوية فيورد ما يثير الشك والشبهة ويقول ما يخالف الحق والواقع، وهو الذي سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) حاشاه عن ذلك.

فيارب بحرمة بركة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هب لنا البركة فيما منحتنا من ارزاق مادية ومعنوية.

نكتة مهمة

بديهي انه كلما اجتمعت اشياء واهية ضعيفة تقوّت. واذا اُبرمت خيوط رفيعة واتحدت صارت عروة وثقى لا تنفصم. وقد اوردنا هنا ستة عشر مثالاً لقسمٍ من خمسة عشر قسماً من نوع معجزة البركة التي تمثل نوعاً من خمسة عشر نوعاً من انواع المعجزات، وكل

مثال اوردناه قويٌ في حد ذاته وكاف وحده لإثبات النبوة. ولو فرضنا ــ فرضاً محالاً ــ بأن بعضاً منها ضعيف غير قوي في ذاته، فلا يجوز الحكم عليه بأن المثال لا يقوى دليلاً على المعجزة لأنه يتقوى بأتفاقه مع القوي.

ثم ان اجتماع هذه الامثلة الستة عشر التي هي في درجة التواتر المعنوي يدل على معجزة كبرى قوية، ولو مُزجَت هذه المعجزة مع سائر الاقسام الاربعة عشر من معجزاته صلى الله عليه وسلم حول البركة التي لم تذكر هنا، لغدت معجزة هائلة كالحبال المتحدة التي لا انفصام لها. ثم انك لو اضفت هذه المعجزة الهائلة القوية الى سائر انواع المعجـزات الاربع عشرة لرأيـت برهـاناً قوياً لا يـتزلـزل، برهـاناً باهراً على النـبوة الصادقة.

وهكذا فعماد النبوة الأحمدية عماد كالطود الاشم تتشكل من مجموعة هذه المعجزات.

ولا شك انك ادركت الآن مدى سخافة وبلاهة مَن يرى هذا البناء الشامخ العامر للنبوة ثم يظن أنها تهوى بشبهات واهية ترد الى ظنه من جزئيات الامثلة.

نعم! ان تلك المعجزات التي تخص البركة في الطعام تدل دلالة قاطعة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وانه مأمور محبوب لدى ذلك الرحيم الكريم الذي يمنح الرزق ويخلقه. وهو عبد كريم لديه بحيث يبعث له مستضافات مملوءة بانواع من الرزق ـ خلافاً للمعتاد ـ من العدم ومن خزائن الغيب التي لا تنفد.

ومعلوم أن الجزيرة العربية شحيحة بالماء والزراعة بحيث ان اهاليها ـ لا سيما في صدر الاسلام ـ كانوا في ضيق من المعيشة وشدة منها وشحة من الماء والتعرض للعطش. فبناء على هذه الحكمة، فقد ظهرت اهم المعجزات الاحمدية الباهرة ظهوراً في الطعام والماء.

فهذه المعجزات انما هي بمثابة اكرام رباني، واحسان الهي، وضيافة رحمانية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، يكرمه حسب الحاجة، فهي

اكرام اكثر من ان تكون دليلاً على النبوة. لأن الذين رأوا هذه المعجزات، كانوا مؤمنين ايماناً قوياً بالنبوة. فالمعجزة كلما ظهرت يتزايد الايمان ويتقوى، وهكذا تزيدهم هذه المعجزات نوراً على نور ايمانهم.

_______________________________

(1) الشفا (1/ 343) في حديث رواه ابن عدي والبيهقي مسنداً، ولفظ البيهقي عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من سرّه ان ينظر الى رجل تسبقه بعض اجزائه الى الجنة فلينظر الى زيد بن صوحان) وفي اسناده هذيل بن بلال ضعفه البيهقي (علي القاري 1/ 702) (الخفاجي 3/ 214) قال الهيثمي (9/ 398): رواه ابو يعلى وفيه من لم اعرفهم. وعزاه ابن حجر لأبي يعلى في المطالب العالية (4/ 91 برقم 4047) قال المحقق: سكت عليه البوصيري.

(2) (الصاع) : الذي يكال به، وهو اربعة امداد، والمد ما يقارب 875غم.

(3) (التور): اناء كالقدح.

(4) رواه البخاري (4/ 234 - 235) ومسلم ( 2045) وغيرهما.

(5) الشفا (1/ 292) رواه الطبراني وفي اسناده من لم اعرفهم (المجمع 8/ 303) وزاد الخفاجي نسبته الى البيهقي (3/ 33) وعلي القاري (1/ 604).

(6) (الازواد): جمع زاد - (الحثية): ما يملأ اليدين - (نطع): بساط من ادم - (حرزته): قدّرته - (الربضة): جلوس العنز. (سواد البطن): الكبدــ (حزّ): قطع بالسكين.

(7) رواه البخاري في الشركة: باب الشركة في الطعام، وفي الجهاد: باب حمل الزاد في الغزو، ومسلم (برقم 1729). وحديث ابي هريرة وعمر رضي الله عنهما رواه مسلم برقم (27).

(8) رواه البخاري في الهبة: باب قبول الهدية من المشركين، وفي البيوع: باب الشراء والبيع مع المشركين واهل الحـرب، وفـي الاطعــمة: بـاب مـن أكـل حتـى شـبع. ومسـلم (2057) واحـمد (الفتـح الربـانـي للـساعـاتــي 22/ 55).

(9) (العناق): الانثى من اولاد المعز ولم يتم لها سنة ـ(برمتنا لتغط): اي قدرنا تغلي غلياناً.(شطر وسق): نصف حمل.

(10) رواه البخاري في المغازي: باب غزوة الخندق، وفي الجهاد: باب من تكلم بالفارسية، ومسلم (29 30).

(11) عن انس قال: قال ابو طلحة لأم سُليم لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شئ؟ قالت: نعم، فأخرجت اقراصاً من شعير ثم ذهبتُ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ارسلك ابو طلحة؟ ) قلت: نعم، فقال لمن معه: (قوموا) فجئت ابا طلحة فأخبرته. فقال ابو طلحة: يا ام سُليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليس عندنا ما نطعمهم. قالت: الله ورسوله اعلم. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (هلمي ما عندك يا أم سليم) فأتت بذلك الخبز، فأمر به ففُتَ وعصرت عليه عكة لها فأدمته، ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء ان يقول، ثم قال: (ائذن لعشرة) فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال: (ائذن لعشرة) فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم قال: (ائذن لعشرة) حتى اكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون. (البخاري 4/ 234 - 235) ومسلم كتاب الاشربة 2040 والسياق للبخاري) ورواه أحمد (الفتح الرباني للساعاتي 22/ 59) وغيرهم.

(12) رواه مسلم (2281).

(13) صحيح: (عن سمرة كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نتداول من قصعة من غدوة حتى الليل تقوم عشرة وتقعد عشرة، فقلنا: فما كانت تمد؟ قال: من أي شي تعجب؟ ما كانت تمد الاّ من ههنا وأشار بيده الى السماء) رواه الترمذي 2629 (تحقيق أحمد شاكر) وقال: هذا حديث حسن صحيح، واقره محقق جامع الاصول (8913) والحديث اخرجه الدارمي برقم (157/ 32 - 33). وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وأقرهما محقق المشكاة (5928).

(14) عن ابن ماجه طرف من آخره، رواه أحمد ورجاله موثقون. وقال في الرواية الثانية، رواه كله الطبراني باسنادين واسناده حسن.

(15) الشفا (1/ 293). رواه أحمد والبيهقي بسند جـيد (الخفاجي 3/ 36) واورده الهيـثمي في المجــمع (8/ 302 - 303) وقال: رواه البزار واللفظ له واحمد باختصار والطبراني في الاوسط باختصار ايضاً ورجال أحمد واحد اسنادي البزار رجال الصحيح، غير شريك وهو ثقة. اهـ. واورد الهيثمي حديثاً نحوه (8/ 302) وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات. والحديث بنفس المعنى في (فضائل الصحابة) 1220 واسناده صحيح كما قال المحقق.

 (16) (جزور): رأس من الابل ناقة أو جملاً سميت بها لأنها مما يجزر.

(17) الشفا (1/ 297).

(18) الشفا (1/ 294) رواه ابن سعد منقطعاً لأن محمداً ووالده لم يدركا علياً، فقول الحلبي رواية الباقر عن علي مرسلة فيه نوع مسامحة (علي القاري 1/ 608)، وللحديث شاهد بمعناه أورده الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (4/ 73 برقم 4001) وحسّنه المحقق، وفي سنده ابن لهيعة وهو سئ الحفظ، وحديثه حسنٌ بالمتابعات، فلا يخشى من سوء حفظه، وصحيح اذا كان عن العبادلة الثلاثة لأنه حدّث قبل احتراق كتبه ، كما صرح بذلك الحافظ وغيره وهذه منها، فعند ابي يعلى عن عبد الله بن صالح عن ابن لهيعة فحديث جابر صحيح.

 (19) (اصوع): جمع صاع - (الفصيل): ولد الناقة الصغير.

(20) اورده الامام أحمد بسياق طويل عن دُكين. قال الساعاتي: رواه ابو داود، قال المنذري واخرجه البخاري في التأريخ الكبير. قال الساعاتي: وليس لدكين في مسند الامام احمد سوى هذا الحديث. ورواه الامام احمد من اربعة طرق اجمعها ما ذكرته هنا وسنده جيد، وسكت عنه ابو داود والمنذري (الفتح الرباني 22/ 58 باختصار) قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح (8/ 304).

(21) رواه البخاري (4/ 235) واحمد (الفتح الرباني 22/ 60). الشفا (1/ 295).

(22) (المزود): وعاء الزاد.

(23) الشفا (1/ 295) واورده الحافظ ابن كثير في تأريخه وعزاه للامام أحمد ورواه الترمذي وقال: حسن غريب من هذا الوجه (الفتح الرباني 22/ 56) واورده التبريزي في المشكاة (3/ 191 برقم 5933) وقال: رواه الترمذي، قال المحقق: وضعفّه بقوله غريب. وحسّنه محقق جامع الاصول، والحديث عند الترمذي (برقم 3838 تحقيق أحمد شاكر)، وانظر جمع الفوائد (12/ 481).

 (24) رواه البخاري في الاستئذان: باب اذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن، وفي الرقاق: باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه وتخليهم عن الدنيا، والحديث عند الترمذي (2479 - تحقيق أحمد شاكر) باختلاف يسير في اوله وليس عندها ذكر للمائة رجل. والله اعلم.

(*)الاشارة البليغة السابعة – المكتوب التاسع عشر ص(148)

قرئت 2.298 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد