مقدمة كتاب الرجل والاعصار

مقدمة كتاب الرجل والاعصار

الأستاذ الدكتور عمّار جيدل

الجزائر

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبه أجمعين،وبعد  

المترجَم له بهذا الكتاب ليس عالما عاديا فضلا عن أن يكون رجلا عاديا، والتعامل مع أمثال هذا العالم الفذ، يقتضي حضورا قلبيا وعقليا في تواكب وتناغم، إذ التعامل معه بأحد المنطقين يضيّع الحقيقة المفردة (غير قابلة للتجزئة) المكوّنة لرسائله المعروفة برسائل النور ويضيّع الخطوط الرئيسة في فهم شخصيته .

إنّنا أمام شخصية متكاملة تقطر إخلاصا وتتّقد ذكاء ودقة تحليل وتنبجس أفكارا في حيوية لافتة للانتباه، إنّنا أمام عَلَم يعتصر قلبُه ألما لما آل إليه أمر أمّتنا، ويتدفّق حيوية في تلمّس مسلك إخراجها من أزمتها، أزمة اختصرها رحمه الله في الخطر الذي يتهدد الإيمان في العصر الراهن. إنّه خطر يرغب في اجتثاث الإيمان من الجذور. ولا شك أنّ طبيعة الأزمة الراهنة لا تختلف عما ذكره الأستاذ رحمه الله، ومن هنا ما زال تحليله حريا بالعناية من جهة وقابلا للاستثمار في صناعة الحاضر والمستقبل وفق ما تحدّده مطالب الإيمان من جهة أخرى. جعل بديع الزمان إنقاذ الإيمان  وصدّ الإلحاد مقصدا رئيسا في رسائل النور؛ فكان رغم الصعاب المتمثّلة في المراقبة التي لا تغادره يتحيّن فرص تبليغ ذلك المقصد النبيل؛ فكان يتجاذب الحديث مع من وفّقوا إلى لقائه، ويخاطبهم حسب مستواهم الفكري والثقافي حيث كان الزائرون من طبقات الشعب كافة. فينصبّ حديثه مجملاً حول أهمية الإيمان في الوقت الحاضر، وكان يصرّح بملء فيه بأنّ القصد الأساس لرسائل النور تقوية الإيمان وصد الإلحاد الذي يهدد الأمة والوطن .

واعتبر رحمه الله أهم قضية في الوقت الحاضر إنقاذ الإيمان وتقويته بالاعتصام بالقرآن الكريم. ورسائل النور تحصر نظرها في هذا المقصد، وحماية الإيمان وإنقاذه حماية لأمة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، لهذا فالمرافعة مطلوبة حتى بمنظور وطني، لأنّها وطنية صادقة، ترمي إلى حماية البلاد والعباد من الوقوع في مخالب الأمراض القاتلة كالكفر والإلحاد اللذين هما أخطر من الطاعون والسل.

 الإيمان الفاعل أقوى من صولجان السياسة، وبرنامج مكثّف يسع الحياة كلّها، إذ لو كانت لنا مائة من الأيدي لما كفت في حمل النور المنبعث من الإيمان، ذلك الإيمان الذي كان وسيبقى أساس مسلكنا الحاث على الإخلاص وابتغاء مرضاة الله وحده، وهذا هو مصدر قوة النور. فالعناية الإلهية تحمي خدمتنا ما دمنا مخلصين (نعمل عملاً إيجابيا بناءً)(1).

يهدف بديع الزمان النورسي في إطار إنقاذ الإيمان إلى المصالحة بين المدرستين الدينية والحديثة، والتأسيس لأقصر طرق الفعالية الإيمانية، والبرهنة العملية بالحال (قبل المقال) على أنّ رسائل النور مصدر قيم الخير وصدّ الشر، وأساس التواصل الإسلامي والإنساني، زيادة إلى كونها طريق تحقيق الاتحاد والأخوة والطاعة والمحبّة وإعلاء كلمة الله التي هي أساس الشكر والعبادة، والتأسيس القلبي والعقلي للشفقة والمحبّة، إنّنا أمام مسلك يؤكّد أنّ الإيمان يعطي الحياة معنى، يدفع الأمراض الاجتماعية، وينقذ الإنسان ويستجيب لحاجاته، ويسعفه على تجاوز الهلاك ويليّن قلبه ويبعث الصلة بين إيمانه وأخلاقه، فتظهر في تصرّفاتنا الأخوة والمحبّة والتضحية الاتّحاد .

إذا أردت دليلا عمليا تطبيقيا على حسن تلك الأهداف ونبالتها وسبل تمثّلها؛ فإليك الدليل بالحال قبل المقال، الفرصة سانحة، اقرأ سيرة هذا الرجل الفذ، ولكن لا تقرأ سيرته قراءة الرواية أو قراءة جافة مجرّدة، بل ينبغي المزاوجة بين حضور القلب والعقل وصدق التوجّه في التعرّف على سيرته، تيسيرا لاستيعاب تلك السيرة العطرة وتمكينا لفهم ظروف ولادة ما جادت به قريحة هذا الرجل من جهة، وأهمية أفكاره في فهم الماضي واستيعاب الحاضر والتخطيط الجيّد لصناعة المستقبل من جهة أخرى .

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل (*)

_________________________

(1) السيرة الذاتية لبديع الزمان النورسي

(*)مقدمة للأستاذ الدكتور عمّار جيدل على كتاب ( الرجل والاعصار ) سيرة ذاتية مختصرة لبديع الزمان سعيد النورسي لاحسان الصالحي

 

 

قرئت 20 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد