منفى أميرداغ

 

 

المدرسة النورية الثالثة

نفي آخر

منفى أميرداغ 

عندما كنت نزيل غرفة في (أميرداغ) تحت الإقامة الجبرية وحيداً فريداً، كانت عيون الترصد تتعقبني وتضايقني دائماً فأتعذب منها أشد العذاب، حتى مللت الحياة نفسها وتأسفت لخروجي من السجن، بل رغبتُ من كل قلبي في ان أعود إلى سجن (دنيزلي) أو أدخل القبر، حيث السجن او القبر افضل من هذا اللون من الحياة.(1) [حتى كتب إلى المسؤولين في آنقرة:]

إذا كان الحاكم والمدعي واحداً، فإلى من تُرفع الشكوى؟ لقد حرتُ طويلاً في هذه المشكلة..

أجل ان حالتي اليوم، وأنا طليق مراقب أشد عليّ بكثير من الأيام التي كنت مسجوناً فيها، وان يوماً واحداً من هذه الحياة يضايقني اكثر من شهر كامل في سجني المنفرد ذاك. لقد مُنعت من كل شئ رغم ضعفي وتقدمي في السن وفي هذا الشتاء القارس. فلا أقابل غير صبي وشخص مريض. على أنني منذ عشرين سنة أعاني مأساة حبس منفرد.

ان مضاعفة المضايقات والمراقبة عليّ وعزلي عن الناس اكثر من هذا الحد سيمس غيرة الله سبحانه وتعالى وتكون العاقبة وخيمة..

إنني اقول: ان أهم وظيفة لهذه الحكومة -بمسؤولي الأمن ومأموري العدل فيها- والتي تعاملني معاملة وجدانية إنسانية هي حمايتي حماية تامة. لأن الحكومة وثلاث محاكم عدلية برأت ساحتنا وأفرجت عنا بعدإجراء تدقيقات دامت طوال تسعة اشهر على ما كتبتُه خلال عشرين سنة من مؤلفات ومكاتيب. ولكن المنظمة السرية التي تعمل بخفاء في خدمة الأجنبي ألقت في روع قسم من الموظفين الشبهات -بجعلها الحبة قبة- طمعاً في إفساد براءتنا. وغايتهم في ذلك هي ان ينفد صبري فأقول: كفى كفى!! على ان سبب غضبهم عليّ في الوقت الحاضر هو سكوتي، وعدم تدخلي بأمور الدنيا. وكأنهم يريدون ان أتدخل حتى تتحقق لهم بغيتهم.

ابيّن لكم بعض مكايدهم التي يستعملونها في بث الشكوك والشبهات في قلوب قسم من الموظفين الحكوميين إذ يقولون: ان لسعيد نفوذاً في الأوساط العامة، وان مؤلفاته كثيرة ولها تأثير بالغ في الناس، فمن يتقرب منه يصادقه، لذا يلزم كسر هذا النفوذ بتجريده من كل شئ وإهانته وعدم الاهتمام به وتجنيب الناس منه وإخافة محبيه. وهكذا أصبحت الحكومة في حيرة من أمرها فتشدد عليّ الخناق وتضاعف المضايقات. وأنا اقول:

أيها الاخوة المحبون لهذه الأمة والبلاد!

اجل، ان هناك نفوذاً وتأثيراً كما يقوله المنافقون، ولكن ليس لي، وإنما لرسائل النور. فرسائل النور لا تنطفئ وكلما تعرض لها شئ قويت! ولم تستعمل الاّ لصالح الأمة والبلاد ولا يمكن غير ذلك. ان قيام محكمتين عدليتين طوال عشر سنوات بتدقيقات ما كتبتُه خلال عشرين سنة تدقيقاً شديداً لم يسفر عن حجة حقيقية لإدانتنا.. وهذه حجة لا تجُرح وشاهد صدق لدعوانا.

نعم، ان المؤلفات ذات تأثير بالغ، ولكن لمصحلة الأمة والبلاد. وذلك بإرشادها إلى الإيمان التحقيقي لمائة ألف من الناس من دون ان تمسّ أحداً بسوء. فتأثيرها اذاً هو في العمل لسعادتهم الدنيوية وحياتهم الأبدية.

ان مئات المساجين المحكومين في سجن (دنيزلي) -بعضهم عوقبوا بعقوبات شديدة- قد اصبحوا متدينين ذوي أخلاق فاضلة بعد قراءتهم رسالة الثمرة وحدها، حتى الذين قتلوا ثلاثة أشخاص تحاشوا عن قتلبقة الفراش بعد قراءتهم لتلك الرسالة. مما دفع هذا الوضع مدير السجن على الإقرار بان السجن اصبح في حكم مدرسة تربوية.. كل هذا حجة قوية لا تجرح لصدق مدعانا.

نعم، ان تجريدي من جميع حقوقي الإنسانية بعد هذا كله إنما هو ظلم مضاعف وعذاب مضاعف وغدر وخيانة لهذه الأمة في الوقت نفسه. ذلك لأن الدليل القاطع على ان هذه الأمة المتدينة -التي لم يجد أحد أي ضرر مني رغم بقائي ما يقرب من أربعين سنة بين ظهرانيهم- بحاجة إلى قوة معنوية وتسل عظيم، هو: ان الأمة لا تلتفت إلى الدعايات المغرضة المشاعة ضدي، فتتوجه في كل مكان إلى رسائل النور وتشتاق إليها.. بل اعترف انهم يبدون من التوقير والاحترام لي يفوق ما استحقه بمائة ضعف، فأنا لست أهلاً له.(2)

”ورغم هذا هيأ الله أسرة (چالشقان) في أميرداغ فبذلوا كل ما في وسعهم شيباً وشباباً لتأمين راحة شيخ كبير وعالم فاضل مهما كانت التبعات، حيث كان الحارس ملازماً بابه لا يغادره.“(3)(*)

 

_______________________

(1) اللمعات/394(1) اللمعات/394

(2) الملاحق - (أميرداغ) 1/230 على الرغم من ان الأستاذ النورسي لم يراجع الجهات الرسمية طوال فترة سجنه او نفيه في غضون ما يقرب من عشرين سنة خلت ولم يُستدع الى مقر الوالي الاّ مرة واحدة في قسطموني، الاّ انه في هذه الفترة من حياته في (أميرداغ) اي خلال ثلاث سنوات ونصف السنة أُستدعي خمس عشرة مرة من قبل المراجع الرسمية منها دائرة الامن او مخفر الشرطة او العدلية.. وفي الوقت نفسه نراه يقدم عرائض الى الجهات المسؤولة لبيان الظلم الواقع عليه كالمذكورة اعلاه، وعريضة مقدمة الى وزير الداخلية والى مدير الامن العام، والى مدير امن آفيون، والى رئيس مجلس الامة والمسؤولين في آنقرة والى رئيس الجمهورية والى المدعي العام والى حاكم التحقيق لأميرداغ.. كل ذلك دليل على مدى الظلم المجحف الذي كان يرزخ تحته. (ب2/1206).

T.H.Emirdağ Hayatı (3)

(*) كليات رسائل النور- السيرة الذاتية ص: 357

 

قرئت 3 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد