نفي إلى بوردور

 

نفي إلى بوردور:

كان المسؤولون في هذه المدينة يراقبون المنفيين مراقبة شديدة، وكان على المنفيين إثبات وجودهم بحضورهم مساء كل يوم لدى الشرطة الا أنني وطلابي المخلصين أُستثنينا من هذا الأمر ما دمت قائماً بخدمة القرآن، فلم أذهب لإثبات الحضور ولم أعرف أحداً من المسؤولين هناك. حتى أن الوالي شكا من عملنا هذا لدى (فوزي باشا)(1) عند قدومه إلى المدينة، فأوصاه: (احترموه! لا تتعرضوا له!.) ان الذي أنطقه بهذا الكلام هو كرامة العمل القرآني ليس الا.(2)

وقبل تسع سنوات عندما أصرّ عليّ قسم من رؤساء العشائر المنفيين معي إلى (بوردور) على قبول زكاتهم كي يحولوا بيني وبين وقوعي في الذل والحاجة لقلة ما كان عندي من النقود، فقلت لأولئك الرؤساء الأثرياء: برغم أن نقودي قليلة جداً الاّ أنني املك الاقتصاد، وقد تعودت على القناعة، فأنا أغنى منكم بكثير. فرفضتُ تكليفهم المتكرر الملح.. ومن الجدير بالملاحظة ان قسماً من أولئك الذين عرضوا عليّزكاتهم قد غلبهم الدَّين بعد سنتين، لعدم التزامهم بالاقتصاد، الاّ أن تلك النقود الضئيلة قد كفتني -ولله الحمد- ببركة الاقتصاد إلى ما بعد سبع سنوات، فلم يُرق مني ماء الوجه، ولم يدفعني لعرض حاجتي إلى الناس، ولم يفسد عليّ ما اتخذته دستوراً لحياتي وهو (الاستغناء عن الناس).(3)

[ويظل في هذه المدينة سبعة اشهر، ويؤلف في هذه الفترة رسالة (المدخل إلى النور) يذكر في مقدمتها:]

ان هذه الرسالة مناظرة بين سعيد القديم وسعيد الجديد، تضم بين دفتيها ثلاثة عشر درساً من الحقائق الإيمانية التي هي بمرتبة الشهود والمسكتة للنفس الأمارة، فهي اقرب إلى علم اليقين ، نبعت مباشرة من القرآن المعجز البيان. هذا وان المخاطب في جميع تلك الدروس سعيد الجديد... (*)

 

 

 

___________________________________

(1) المقصود المارشال فوزي چاقماق الذي كان رئيس اركان الجيش آنذاك.

(2) اللمعات/ 67

(3) اللمعات/ 215.

(*) كليات رسائل النور – سيرة ذاتية ص (210)

قرئت 2 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد