هكذا تقتضي خدمة الإيمان

 

النورسي

بديع الزمان

في منفى أميرداغ

هكذا تقتضي خدمة الإيمان :(1)

أخي الصدّيق العزيز وصديقي الحميم الشهم في هذه الدنيا الفانية.

أولاً:أشكركم جزيل الشكر على سبقكم جميع أصدقائي واهل مدينة ارضروم، على علاقتكم المشحونة بالشفقة الخالصة، وسعيكم فكراً لمدّ يد العون لي في حياتي التي مضت بالعذاب والظلم. فلا أنسى فضلكم هذا إلى نهاية عمري، فألف ألف ما شاء الله بارك الله فيكم.

ثانياً:سأبيّن بعض ما يخص حالتي وتعذيب الظلمة لي، مخالفاً بذلك مسلكي وماتعلّمته من رسائل النور، ومنافياً لدستور حياتي، وهو عدم النظر -منذ عشر سنوات- إلى حوادث الدنيا العابرة التافهة. أبيّنه تطميناً لخاطرك واهتمامك الذي ذكرته في رسالتك الأخيرة ليس إلاّ.

الأول: حينما كنت عضواً في (دار الحكمة الإسلامية) قبل ثلاثين سنة قال لي أحد أعضائها وهو السيد سعد الدين پاشا: سمعت ممن أثق بكلامه أن منظمة للزندقة مدعومة من جهات أجنبية، قرأوا كتاباً لك وقالوا: لا يمكننا نشر أفكارنا ما دام هذا الرجل حياً، ولذلك قرروا القضاء عليك. فجئت لأخبرك بالأمر فانك عزيز عليّ.

فقلت: توكلت على الله، والأجل واحد لا يتغير ولا يتبدل.

فهذه المنظمة قد توسعت، واستعملت بحقي جميع حبائل المكر والخديعة منذ ثلاثين او أربعين سنة فسببت دخولي السجن مرتين وتسميمي إحدى عشرة مرة. وآخر خطتهم هي استعمال نفوذ الحكومة الرسمية بتشديدها عليّ وذلك بدفعهم وزير الداخلية السابق ومحافظافيون السابق ووكيل قائمقام أميرداغ السابق ليأخذوا جبهة متحدة ضدي. حتى أنهم بدأوا ببث الأراجيف والشائعات المغرضة لمثلي وأنا العاجز الضعيف الكهل المنزوي الفقير الغريب المحتاج إلى من يعاونه ويخدمه، فبلغ الخوف لدى الناس مبلغاً -لشدة دعاياتهم- بحيث لا يجرأ أحد من الموظفين ان يسلّم عليّ تجنباً من نقله إلى بلد آخر بمجرد وصول الإخبارية إليهم. لذا لم يمرّ عليّ غير المخبرين الجواسيس، بل حتى جيراني قطعوا عني السلام. ولكن رغم كل هذا فقد منحني الحفيظ العليم وشملني بعنايته الواسعة وأعطاني تحملاً عجيباً وصبراً جميلاً ولم يجعلني مضطراً إلى التوسل بهم قطعاً رغم المضايقات الشديدة.

الثالث: لم تجد محكمتان مبرراً قانونياً واحداً لإدانتنا بعد طول تدقيق وتمحيص استغرق سنتين، فبرّأت ساحتنا. ولكن تلك المنظمة للزندقة أخذت تستغل بعض الموظفين المنافقين فدبّروا معاً خطة رسمية في مركز الحكومة، وعزلوني عن جميع طلابي واخلائي كلياً. ونفوني إلى مكانٍ ناءٍ غير ملائم كلياً لصحتي وحياتي وهو أميرداغ. وقد تحقق لدي الآن انهم يستهدفون غايتين في هذه المعاملة:

أولاها: افتعال حادثة بإثارتي وإغضابي، لمعرفتهم بأني لا أتحمل الإهانة مهما كانت وعندها يكون لديهم مبرر لإنهاء حياتي.

ولكن لأنهم لم يجنوا شيئاً من هذه المحاولة حاولوا إنهاء حياتي بالتسميم. ولكن العناية الإلهية الشاملة ودعوات طلاب النور والصبر والتحمل.. كلها أصبحت كالترياق الشافي لذلك السم. فباءت الخطة بالإخفاق.

إنه لم يقترف في التاريخ وفي أية حكومة كانت خرق للقانون ولا إنزال لأنواع العذاب والمظالم باسم القانون وباسم الحكومة بمثل ما أُقترف بحقي، إذ كان الترصد والمراقبة مستمرة بحيث تثير أعصابي حتى تبلغ مبلغ الحدة والغضب مع إلقاء الرعب في قلوب الناس.. وقد خطر إلى قلبي فجأة خاطر هو: عليك بالإشفاق على هؤلاء الظلمة لا الحدة عليهم. لأن كل واحد منهم سيلقى الوفاً من العذاب الدائمي الأشد بعد مدة قليلة بدلاً من العذاب المؤقت الذي يذيقونك إياه. فيؤخذ تأثرك منهم بألف ضعف وضعف لما يلاقون من جهنم مادي ومعنوي.

وسيُعذب قسم منهم عذاباً وجدانياً طالما هو في الدنيا حتى يُقضى عليه. فضلاً عن القلق والخوف من الإعدام الأبدي الذي ينتظرهم. وأنا بدوري تركت الغضب جانباً وأشفقت عليهم قائلا: يا رب أصلح شأن هؤلاء.

إنني اشكر ربي الجليل واشعر بفرح غامر ضمن المضايقات الرهيبة، إذ إن انشغالهم بي بدلاً من رسائل النور وطلابها وصبّهم العذاب عليّ وحدي، ينفع من حيث سلامة النوريين فضلاً عن كسب الثواب لي .

رابعاً:أما ما ذكرته في رسالتك حول مراجعتك الحكومة الحاضرة إذا اقتضى الأمر لذهابي إلى الشام أو الحجاز لضمان راحتي... فأقول:

أولاً: انه يجب عليّ المجئ إلى هنا حتى لو كنت في مكة المكرمة وذلك إنقاذاً للإيمان وخدمة للقرآن الكريم، فالحاجة هنا شديدة جداً.

فلو أملك ألف روح وروح، وابتليت بألف مرض ومرض، وقاسيت الوفاً من صنوف الآلام والمصاعب، فان قراري -وقرارنا- هو البقاء هنا، خدمة لإيمان هذه الأمة وسعياً لإكسابهم السعادة الأبدية، ذلك ما تعلمناه من دروس القرآن الكريم.

ثانياً: تكتب اليّ -يا أخي- عن الإهانة التي أقابل بها بدلاً من الاحترام والتقدير وتقول: (لو كنتَ في مصر أو أمريكا لكنتَ تُذكر في التاريخ بإعجاب وفخر.)

أخي العزيز الفطن!

نحن نهرب هروباً من احترام الناس إيانا وتوقيرهم لنا وحسن ظنهم بنا وإكرامهم لنا وإعجابهم بنا، وذلك بمقتضى مسلكنا.

فاللهاث وراء الشهرة التي هي رياء عجيب، ودخول التاريخ بفخر وبهاء، وهو عُجب ذو فتنة، وحب الظهور وكسب إعجاب الناس.. كل ذلك مناف ومخالف للإخلاص الذي هو أساس من أسس مسلك النور وطريقه.

فنحن نجفل ونهرب مذعورين من هذه الأمور باعتبارنا الشخصي؛ ناهيك عن الرغبة فيها.

ولكننا نرجو من رحمة الله الواسعة إظهار رسائل النور النابعة من فيض القرآن الكريم، والتي هي لمعات إعجازه المعنوي، ومفسرة حقائقه وكشافة أسراره.. فنرجو من رحمته تعالى الإعلان عن هذه الرسائل والرواج لها وشعور الناس بحاجتهم إليها وإظهار قيمتها الرفيعة جداً، وتقدير الناس لها وإعجابهم بها، وتبيان كراماتها المعنوية الظاهرة جداً وإظهار غلبتها على الزندقة بجميع أنواعها بسر الإيمان، فنحن نريد إعلام هذه الأمور وإفهام الناس بها وإظهار تلك المزايا، ونرجو ذلك من رحمته تعالى.(2) (*)

 

 

__________________

(1) يبين الأستاذ في هذه الرسالة ما استعمله الأعداء بحقه من مظالم وما يجب عليهم من العمل لخدمة الإيمان والقرآن في تلك الايام الحالكة.

(2) الملاحق- أميرداغ 1/289 

    T. H. Emirdağ Hayatı    

(*) كليات رسائل النور- السيرة الذاتية ص:360

قرئت 7 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد