الايمان يقتضي الدعاء
باسمه سبحانه
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أجْر غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾(التين:4-6)
ايها المستخلف المبارك
كما أن الإيمان يقتضي "الدعاء" ويتّخذُه وسيلةً قاطعةً ووساطةً بين المؤمن وربّه، وكما أن الفطرةَ الإنسانية تتلهف إليه بشدةٍ وشوق،
فإن اللّٰه سبحانه وتعالى أيضا يدعو الإنسان إلى الأمر نفسه بقوله: ﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾(الفرقان:77) وبقوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾(غافر:60).
ولعلك تقول: " إننا كثيرا ما ندعو اللّٰه فلا يُستجابُ لنا رغم أن الآيةَ عامة تُصرّح بأنّ كل دعاءٍ مستجاب ".
الجواب: إنّ استجابةَ الدعاءشيء، وقبولَه شيء آخر. فكلُّ دعاءٍ مستجاب، إلاّ أن قبولَه وتنفيذَ المطلوب نفسه منوط بحكمةِ اللّٰه سبحانه.
فمثلا: يستصرخ طفل عليل الطبيبَ قائلا: أيها الطبيب انظرْ إليّ واكشِفْ عني. فيقول الطبيب: أمرُك يا صغيري.
فيقول الطفل: اعطني هذا الدواء. فالطبيبُ حينذاك إمّا أنه يُعطيه الدواء نفسَه، أو يعطيه دواءً أكثر نفعا وأفضل له، أو يمنع عنه العلاجَ نهائيا. وذلك حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحةُ.
وكذلك الحق تبارك وتعالى - وله المثل الأعلى - فلأنه حكيم مطلق ورقيب حسيب في كل آن، فهو سبحانه يستجيب دعاءَ العبد، وباستجابته يُزيل وحشَته القاتمةَ وغربتَه الرهيبة، مُبدلا إياها أملا وأنسا واطمئنانا. وهو سبحانه إما أنه يَقبل مَطلبَ العبد ويستجيب لدعائه نفسه مباشرة، أو يمنحه أفضلَ منه، أو يردّه، وذلك حسب اقتضاء الحكمة الربانية، لا حسبَ أهواء العبد المتحكمة وأمانيّه الفاسدة.
وكذا، فالدعاء هو ضرب من العبودية، وثمارُ العبادة وفوائدُها أخروية. أما المقاصدُ الدنيوية فهي "أوقاتُ" ذلك النوع من الدعاءوالعبادة، وليست غاياتها.
فمثلا: صلاةُ الاستسقاء نوع من العبادة، وانقطاع المطر هو وقتُ تلك العبادة. فليست تلك العبادةُ وذلك الدعاءلأجل نـزولِ المطر.
فلو أدّيَتْ تلك العبادةُ لأجل هذه النية وحدَها إذن لكانت غير حريّة بالقبول، حيث لم تكن خالصةً لوجه اللّٰه تعالى..
وكذا وقتُ غروبِ الشمس هو إعلان عن صلاة المغرب، ووقتُ كسوف الشمس وخسوف القمر هو وقتُ صلاةِ الكسوف والخسوف.
أي إن اللّٰه سبحانه يدعو عبادَه إلى نوعٍ من العبادة لمناسبة انكساف آية النهار وانخساف آية الليل اللتين تومئان وتُعلنان عظمتَهُ سبحانه.
وإلاّ فليست هذه العبادة لانجلاء الشمس والقمر الذي هو معلوم عند الفلكي..
فكما أن الأمر في هذا هكذا فكذلك وقتُ انحباس المطر هو وقتُ صلاةِ الاستسقاء، وتهافتُ البلايا وتسلطُ الشرور والأشياء المضرة هو وقتُ بعض الأدعية الخاصة، حيث يدرك الإنسانُ حينئذٍ عجزَه وفقرَه فيلوذ بالدعاء والتضرع إلى باب القدير المطلق.
وإذا لم يدفع اللّٰهُ سبحانه تلك البلايا والمصائبَ والشرور مع الدعاءالملحّ، فلا يُقالُ: إن الدعاءَ لم يُستجبْ، بل يقال: إنّ وقت الدعاءلم ينقضِ بعدُ.
وإذا ما رفع سبحانه بفضله وكرمه تلك البلايا وكشفَ الغمةَ فقد انتهى وقتُ الدعاءإذن وانقضى.
وبهذا فالدعاء سرّ من أسرار العبودية. والعبودية لابد أن تكون خالصةً لوجه اللّٰه، بأن يأوي الإنسانُ إلى ربِّه بالدعاء مُظهرا عجزَه، مع عدم التدخل في إجراءات ربوبيته، أو الاعتراض عليها، وتسليمُ الأمر والتدبير كلّه إليه وحدَه، مع الاعتماد على حكمته من دون اتهامٍ لرحمته ولا القنوط منها.
نعم، لقد ثبت بالآيات البيّنات أن الموجودات في وضعِ تسبيحٍ للّٰه تعالى؛ كل بتسبيح خاص، في عبادة خاصة، في سجود خاص، فتتمخّض عن هذه الأوضاع العبادية التي لا تعدّ ولا تحصى سبُلُ الدعاء المؤدية إلى كنف ربٍّ عظيم.
إما عن طريق " لسان الاستعداد والقابلية "؛ كدعاء جميع النباتات والحيوانات قاطبة، حيث يبتغي كلُّ واحدٍ منهما من الفيّاض المطلق صورةً معينةً له فيها معانٍ لأسمائه الحسنى. أو عن طريق " لسان الحاجة الفطرية " كأدعية جميع أنواع الأحياء للحصول على حاجاتها الضرورية التي هي خارجة عن قدرتها، فيطلب كلُّ حيٍ من الجواد المطلق؛ بلسان حاجته الفطرية عناصرَ استمرار وجوده التي هي بمثابة رزقها.
أو عن طريق " لسان الاضطرار "، كدعاء المضطرّ الذي يتضرع تضرعا كاملا إلى مولاه المغيب، بل لا يتوجّه إلاّ إلى ربّه الرحيم الذي يلبّي حاجته ويقبل التجاءَه.
فهذه الأنواع الثلاثة من الدعاء مقبولة إن لم يطرأ عليها ما يجعلُها غير مقبولة.
والنوع الرابع من الدعاء، هو "دعاؤنا" المعروف، فهو أيضا نوعان:
أحدهما: دعاء فعلي وحالي.
وثانيهما: دعاء قلبي وقولي.
فمثلا: الأخذُ بالأسباب هو دعاء فعلي، علما أنّ اجتماع الأسباب ليس المرادُ منه إيجاد المسبَّب. وإنما هو لاتخاذ وضع ملائم ومُرضٍ للّٰه سبحانه لِطَلَب المسبَّب منه بلسان الحال. حتى إن الحراثةَ بمنـزلةِ طَرْقِ بابِ خزينةِ الرحمةِ الإلهية. ونظرا لكون هذا النوع من الدعاء الفعلي موجّه نحو اسم " الجواد " المطلق وإلى عنوانه فهو مقبول لا يُردُّ في أكثر الأحيان.
أما القسم الثاني: فهو الدعاء باللسان والقلب. أي طلبُ الحصولِ على المطالب غير القابلة للتحقيق والحاجات التي لا تصلُ إليها اليدُ. فأهمُّ جهةٍ لهذا الدعاء وألطفُ غاياته وألذُّ ثمراته هو أن الداعي يُدرك أن هناك مَن يسمع خواطرَ قلبه، وتصل يدُه إلى كل شيء، ومَن هو القادرُ على تلبية جميع رغباته وآمالِه، ومَن يرحم عجزَه ويُواسي فقرَه.
فيا أيها الإنسان العاجز الفقير! إياك أن تتخلّى عن مفتاح خزينةِ رحمةٍ واسعةٍ ومصدر قوةٍ متينة، ألاَ وهو الدعاءُ.
فتشبَّثْ به لترتقيَ إلى أعلى علّيي الإنسانية، واجعل دعاءَ الكائنات جزءا من دعائك.
ومن نفسك عبدا كليا ووكيلا عاما بقولك ﴿إياكَ نَسْتَعينُ﴾ وكن أحسنَ تقويمٍ لهذا الكون. (*)
______________
كليات رسائل النور – الكلمات ص:356