ان الرحمة والعدالة والحكمة تتطلب وجود جهنم وتقتضيه
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
ان وجود جهنم وعذابها الشديد لا ينافي قطعاً الرحمة غير المحدودة، ولا العدالة الحقيقية، ولا الحكمة الموزونة التي لا اسراف فيها، بل ان الرحمة والعدالة والحكمة تتطلب وجود جهنم و تقتضيه، لأن قتل حيوان افترس مائة من الحيوانات او انزال عقاب بظالم هتك حرمات ألفٍ من الابرياء، هو رحمة بآلاف الاضعاف للمظلومين من خلال العدالة. وان اعفاء ذلك الظالم من العقاب او التجاوز عنه، وترك ذلك
الحيوان الوحشي طليقا، فيه ظلم شنيع وعدم رحمةٍ لمئات المساكين بمئات الاضعاف، ازاء رحمة في غير موضعها. ومثل هذا ايضا، الكافر المطلق - الذي يدخل سجن جهنم - فانه بكفره ينكر حقوق الاسماء الإلهية الحسنى، اي يتعدى على تلك الحقوق.. وبتكذيبه لشهادة الموجودات - الشاهدة على تلك الاسماء - يتعدى على حقوقها ايضا.. وبانكاره للوظائف السامية للمخلوقات - وهي تسبيحاتها تجاه الاسماء - يتجاوز على حقوقها.. وبجحوده لانواع العبادات التي تؤديها المخلوقات تجاه تظاهر الربوبية والالوهية - وهي غاية خلقتها وسبب من اسباب وجودها وبقائها - يتعدى تعديا صارخا على حقوق جميع المخلوقات؛ لذا فالكفر جناية عظيمة وظلم شنيع تتجاوز بشاعته كل حدود العفو والمغفرة، فيحق عليه اذن تهديد الآية الكريمة { إن الله لا يَغفِرُ أن يُشرَكَ به..} (النساء: 48) بل ان عدم القاء مثل هذا الشخص في جهنم رحمةً به هو أمر ينافي الرحمة منافاة كلية في حق هذه الاعداد الهائلة من المخلوقات والكائنات التي اُنتهكت حقوقها.
وهكذا مثلما يطالب اصحاب الدعاوي بوجود جهنم، فان عزة جلال الله وعظمة كماله سبحانه تطلبانها قطعا.
نعم، اذا قال سفيه او شقي عاص لحاكم عزيز للبلاد: "انك لا تستطيع ان تقذفني في السجن ولن تقدر على ذلك ابد". متجاوزاً حده ومتعديا على عزة ذلك الحاكم وعظمته، فلابد أن ذلك الحاكم سينشئ سجنا لذلك السفيه المتعدي حتى لو لم يكن هناك سجن في البلاد. كذلك الامر في الكافر المطلق، فانه بكفره يتعدى بشدة على عزة جلاله سبحانه، وبانكاره يتحدى عظمة قدرته، وبتجاوزه يمس كمال ربوبيته، فان لم يكن هناك حتى تلك الاسباب الموجبة وتلك المبررات الكثيرة والحكم العديدة والوظائف الكثيرة لجهنم ولوجودها؛ فان خلق جهنم لمثل هؤلاء الكفار والقاءهم فيها هو من شأن تلك العزة وذلك الجلال.
ثم إن ماهية الكفر نفسها توحي بجهنم؛ اذ كما أن ماهية الايمان اذا تجسمت يمكن ان تبني بلذائذها ونعيم جمالها جنة خاصة في وجدان الانسان وقلبه، هي جنة مصغرة تومئ وتخبر عن جنة الخلد التي تنتظره في الآخرة، كذلك الكفر - ولاسيما الكفر المطلق - والنفاق والردة فيه من الآلام والاعذبة والظلمات المرعبة بحيث لو تجسمت وتأصلت في نفس صاحبها كونت له جهنمه الخاصة به تلك التي تشير الى
ما سيفضي اليه في آخرته من جهنم هي اشد هولاً وأشد عذاباً. ولقد اثبتنا هذا بدلائل قاطعة في رسائل النور، واشير اليه في مستهل هذه المسألة ايضاً.
ولما كانت هذه الدنيا مزرعة الآخرة، فالحقائق الصغيرة التي فيها تثمر وتتسنبل في الآخرة، فهذه البذرة السامة (الكفر) تشير من هذه الزاوية الى شجرة الزقوم تلك، وتقول: "أنا اصل تلك الشجرة وجوهرها.. فمن يحملني في قلبه من المنكوبين سأثمر له نموذجا خاصا من تلك الشجرة الملعونة".
وما دام الكفر تعديا على حقوق غير محدودة، وتجاوزا فاضحا، فهو اذن جناية غير محدودة، لذا يجعل صاحبه مستحقا لعذاب غير محدود. فلئن كان القتل الذي يحدث في دقيقة واحدة يذيق القاتل خمس عشرة سنة من العذاب (ما يقارب ثمانية ملايين دقيقة) ويعتبر ذلك موافقا للعدالة البشرية، وعدّته موافقا للمصلحة العامة وحقوقها، فلا جرم أن دقيقة واحدة من الكفر المطلق - على اعتبار الكفر ألف قتل - تقابل إذن بعذاب يقرب من ثمانية مليارات من الدقائق، على وفق تلك العدالة الانسانية فالذي يقضي سنة كاملة من عمره في الكفر اذاً يستحق عذاب ترليونين وثمانمائة وثمانين مليارا من الدقائق، اي يكون اهلا لـ:
{ خالدين فيها أبداً } (النساء: 169).(*)
_______________________
(*) الشعاع الحادي عشر - ص: 287