الرحيل

 

الرحيل (1)

في 19/3/1960 يوم السبت وصل الأستاذ إلى إسپارطة وكان الوقت بعد صلاة العصر وقبلها جاء الشرطي ليستفسر عنه قائلاً:

- ان الأستاذ قد غادر (اميرداغ). قلنا لهم

- لم يأت الينا!

وفعلاً بعد مضي ساعة واحدة أتى الأستاذ بالسيارة، وما ان سمعنا تنبيه السيارة حتى نزلنا وفتحنا الكراج، ودخلت السيارة ثم قفلنا الابواب.

كان الأستاذ متمدداً على ظهره في المقعد الخلفي للسيارة والمرض قد اشتد عليه. اخذناه باحضاننا لنخرجه من السيارة. وعندما صعدنا السلم اردنا ان نحمله على ظهورنا، فلم يقبل. فادخلنا -انا والاخ طاهري- ايدينا تحت ابطه حتى اوصلناه إلى الغرفة، واجلسناه مكانه ثم تمدد في فراشه. كانت درجة حرارته عالية جداً، لذا لم نفارقه قط، حتى اننا كنا نصلي فرادى كي نتناوب البقاء معه للرعاية والسهر عليه.

كنا نحن الاربعة (انا و زبير(2) وحسني و طاهري) عند الأستاذ. وفي منتصف الليل كنت انا مع الاخ زبير نتناوب الخفارة عنده. فيرخى احدنا يده ويدلكها والاخر يدلك رجليه. فنظر الأستاذ اليّ قائلاً:

- سنذهب.

- نعم سنذهب يا استاذي، ولكن إلى اين؟.

- إلى (اورفة)... إلى (دياربكر)...

وكرر قوله: سنذهب.

ولما قلت: إلى اين يااستاذي؟

- إلى (اورفة).

قال الاخ (زبير): ربما يقول هذا تحت وطأة الحمى التي تنتابه!

وفي حوالي الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل بدأ الأستاذ يكرر القول نفسه:

- سنذهب في الصباح الباكر إلى (اورفة)..

فكان يؤكد على (اورفة).

ثم جاء الاخ (طاهري) وحسني لكي يستلما دورهما في الخفارة. وذهبنا انا والاخزبير لتناول السحور (حيث كنا في العشر الاواخر من رمضان المبارك)..

ولقد قال الأستاذ ايضاً إلى الاخ (حسني)

- تهيأوا للذهاب إلى (اورفة).

ولكن الاخ حسني بين ان اطارات السيارة لاتصلح للسفر.

وكرر الأستاذ مرة أخرى:

- سنذهب إلى اورفة مهما كلف الأمر، استأجروا سيارة ولو بمائتي ليرة.. ابيع جبتي اذا اقتضى الأمر.

بدأنا بتهيأة السيارة للسفر، ورأيت ان اطارات السيارة فعلاً غير صالحة، ولايمكننا الحصول على اطارات جديدة في هذا الوقت... وعندما كنا منهمكين في تهيئة السيارة جاء الاخ (طاهري) مسرعاً لمعاونتنا حيث ارسله الأستاذ الينا، واخبرنا ان الأستاذ يطلب الاسراع في الأمر.

تهيأت السيارة، والأستاذ نفسه مستعد للسفر، وانا كنت انتظر الاشارة من الأستاذ كي اشاركهم في السفر، إذ كان الاخ زبير يقول منذ المساء:

- ليت الاخ (بايرام) يكون معنا، فيساعدنا في الطريق. فربما نجد الصعوبة دونه. لذا، لدى خروج الأستاذ من الباب سأل الاخ زبير من الاخ (طاهري):

- هل سيأتي بايرام ايضاً؟

فقال الأستاذ:

- نعم انه سيكون معنا.

فوضعنا الأستاذ في المقعد الخلفي من السيارة بعدما فرشنا له فراشاً عليه ليجد الراحة. وجلست مع الاخ زبير في المقعد الامامي مع السائق.

في 20/ 3/1960 والساعة تشير إلى التاسعة صباحاً، كان ثمة شرطيان يراقباننا في الشارع، حيث اشتد هجوم المعارضة على الحكومة حتى اذيع في الراديو:

(على بديع الزمان سعيد النورسي البقاء في إسپارطة او اميرداغ).

وقبل ان تتحرك السيارة جاءت صاحبة البيت (السيدة فطنة) إلى سيارة الأستاذ، فودعها الأستاذ قائلاً:

- اختى! استودعكن الله نرجو دعاءكن، فانا مريض جداً..

كان الأستاذ يقول هذا بحزن شديد، حيث ان اللحظات هي لحظات فراق، حتى ان عيون صاحبة البيت طفحت بالدموع.. وقد قالت إلى الاخ (طاهري):

- انني -والله- وجلة من سفر الأستاذ في هذه المرة، انه ذاهب ليبحث عن مستقره -أي قبره-.

وقبل المغادرة اوصينا الاخ (طاهري) بعدم فتح الباب لأي طارق، وليذهب لينام. فنفذ الاخ ما اوصيناه، فبدأ الشرطة يسألون من صاحبة البيت:

- ألا تعلمين، متى ذهب الأستاذ وإلى اين؟

فكانت تجيبهم:

- وهل انا حارسة، كيف ادري، وانتم لاتدرون..؟

كانت الامطار تهطل بغزارة أثناء مغادرتنا (إسپارطة)، وكنا نخاف كثيراً من كيد والي (قونيا) حيث كان يصرح للصحف:

- سأجتث جذور طلاب النور واقلعها من الاعماق.

لذا كنا نقرأ على طول الطريق (آية الكرسي) وباستمرار دفعاً لشره.

اشتد المطر نازلا بغزارة اكثر عند وصولنا إلى (اغريدر) بحيث لم يبق أحد من الشرطة في الشارع فدخلوا جميعاً إلى بناية مركز الشرطة، حتى اننا مررنا من امام المركز ولم يرنا احد. وهكذا تركنا المدينة. ثم وضعنا الطين على لوحة السيارة لئلا يرانا أحد من المراقبين. وبعد ان تركنا (قره اغاج) اصبح الأستاذ في عافية، فنزل من السيارة وجدد الوضوء. وبعد ان قطعنا مسافة عدة كيلومترات من هناك وقفنا على شمال الطريق عند النبع، فصلى الأستاذ فوق صخرة هناك، ثم بدأنا السير وقبل ان نصل (قونيا) انهى الأستاذ اذكاره واوراده، واستعدل في مكانه على المقعد الخلفي، ولكن ما ان وصلنا حدائق (مرام) في ضواحي (قونيا) حتى اشتد مرض الأستاذ مرة أخرى ولم يتمكن من النطق. فدخلنا المدينة واشترينا فيها الزيتون والجبن استعداداً للافطار، ودفع الأستاذ ثمنه وقال:

- ابنائي انا مريض جداً، كلوا انتم بدلاً عني.

وبفضل الله فقد وسعتنا عنايته الكريمة حيث لم يشاهدنا -والحمد لله- أحد في المدينة، بل ولا في المدن التي تلت (قونيا).

وقبل وصولنا إلى (ارگلي) جلس الأستاذ في مكانه ومد يديه ماسكاً اذني واذن الاخ زبير من الخلف قائلاً لنا:

- ابنائي، لاتخافوا ابداً، فقد قصمت رسائل النور ظهر الملحدين والشيوعيين، فرسائل النور غالبة دائماً باذن الله.

كرر هذا القول عدة مرات، وكان صوته واطئاً جداً بحيث لانكاد نسمعه، ثم قال:

هؤلاء لم يفهموني، هؤلاء لم يفهموني، هؤلاء لم يفهموني، هؤلاء ارادوا ان يلوثوني بالسياسة.

ثم ترجلنا من السيارة اداء لصلاة العصر. ولكن الأستاذ ظل داخل السيارة وصلى هناك.

وعندما حان وقت المغرب وصلنا (اولوقشلة) فقال الأستاذ:

- هل لنا بشئ من الاكل؟

فنزلنا -انا والاخ زبير- واشترينا من المطعم قليلاً من الرز، واردنا ان نهئ الطعام، ولكن الموقد الذي نحمله ما كان يصلح للغرض، فأخذنا موقد حارس سكة الحديد هناك.. كان الجو بارداً جداً، فتوسلت بالحارس ليستأجرنا موقده وقلت له ان معنا شيخاً مريضاً وان موقدنا معطوب. فرضي الحارس.

بدأنا نحضر الطعام، ظل الاخ زبير مع الأستاذ داخل السيارة. وضعنا قليلاً جداً من الزبدة والبيض مع شئ من اللبن، فأخذ الأستاذ ملعقة منه ليضعه في فمه ولكنه لم يستطع الاكل، لانسداد بلعومه من شدة المرض.

مررنا من (اطنه) ليلاً ثم من (جيحان)، وصلينا العشاء في ضواحيها. ثم استرخى الاخ حسني لينام ساعة حيث كان يقود السيارة باستمرار. وعند السحور وصلنا (العثمانية) ودخلناها للتزود بالوقود، ولنتناول السحور، الا ان الأستاذ لم يذق شيئاً قط. ثم اقمنا صلاة الفجر قرب (المان پنارى) والأستاذ لم يغادر السيارة. كانوا يطلقون على هذا الجبل سابقاً (گاوورداغى) -أي جبل الكفر- والآن يطلقون عليه (نور داغى) أي جبل النور.

وعند انبلاج الصباح وصلنا (غازي عنتاب) فاشتريت من المطعم شيئاً من الحساء وسألت عن الطريق إلى (نزيب)، حيث كانت الثلوج والامطار تتساقط بشدة. وكان الطريق محفوفاً بالمخاطر فترى السيارات عاطلة على جانبي الطريق، اما سيارتنا -والفضل لله- فكانت تسبق الريح ولم تتعطل لا في اطاراتها ولا في محركها والحمد لله.

وعندما وصلنا إلى اورفة كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة وكان الاخ حسني على معرفة جيدة بشوارع (اورفة).. دنونا من مسجد (قاضى اوغلو) الذي كان الاخ (عبدالله يكن) يتواجد فيه، فاوقفنا السيارة قرب المسجد، واسرع الاخ زبير إلى المسجد لابلاغ الاخ عبدالله بقدوم الأستاذ، وعندها قال الأستاذ:

- لنسرع بالذهاب فلامتسع لنا للانتظار.

جاء الاخ زبير ومعه الاخ عبدالله مسرعاً إلى السيارة، فطلبنا من الاخ عبدالله ان يدلنا على فندق نظيف جداً، فدلنا على فندق (ايپك بالاس).

حملنا الأستاذ معاً وصعدنا به إلى الطابق الثالث حيث الغرفة رقم (27) ووضعناه على فراشه ليرتاح قليلاً من عناء هذا السفر الطويل.

اما اهالي اورفة فقد كانوا منهمكين بتلاوة القرآن الكريم وختمه، نظراً لاننا كنا في شهر رمضان المبارك. وما ان سمعوا بقدوم الأستاذ إلى مدينتهم حتى هرعوا إلى الفندق وعاتبنا الكثيرون من عدم اخبارنا لهم مسبقاً بمجئ الأستاذ ليستقبلوه...

بدأ الناس يتقاطرون من كل مكان لزيارة الأستاذ. كان الاخ زبير جالساً على باب الغرفة، يسمح لهم بالدخول واحداً واحداً، اما انا فقد كنت امسك بيد الأستاذ وهم يقبلونها، والأستاذ يقبل رؤوسهم، وما كان الأستاذ يرغب بمغادرتهم بينما كنت اقول لهم ارجو ان تخرجوا من الغرفة ليتسنى لغيركم المجئ إلى الأستاذ، فكانوا يخاطبونني:

- الاترى ان الأستاذ لا يرغب في ذلك.

لقد كنا فعلاً في حيرة من هذا الموقف من الأستاذ حيث لم نكن قد رأينا مثله من قبل، فما كان الأستاذ ليسمح لأحد بالبقاء عنده سواء أكان في إسپارطة ام في (اميرداغ)، حتى اننا عندما كنا في إسپارطة ومرض الأستاذ، فقلت له:

- يااستاذي هل ابلغ الاخوان بمرضك؟

قال: لا لايأتي أحد اليّ دونكم.

بينما هنا في هذه المدينة، لم يكن يردّ احداً، بل كان يضمهم إلى صدره، فقد اتى لزيارته اهالي المدينة كلهم، ومن الاصناف كافة، ولم يرد الأستاذ احداً منهم. بل كان يتحمل محتسباً ولم يسترح بل لم يذق طعم النوم. وكذلك نحن لم يجد النوم إلى عيوننا سبيلا.

استلمت دوري من الاخ زبير فجلست امام الباب، وجاء في الحال شرطيان اثنان قال احدهما:

- تهيأوا للذهاب! اين السائق؟

اجبتهم:

- الأستاذ مريض جداً.

ثم جاء أحد عشر شرطياً وقالوا:

- تهيأوا حالا! ستذهبون إلى إسپارطة في الحال.

قلت لهم:

- سأبلغ الأستاذ بالأمر.

دخلت على الأستاذ واخبرته بالأمر، فسمح لهم بالدخول اليه، فقالوا:

- ان رجوعكم إلى إسپارطة امر صادر من وزارة الداخلية.

قال لهم الأستاذ:

- يا للعجب! لقد اتيت هنا لكي اموت فيه، وربما سأموت، وها انتم ترون حالي، دافعوا عني.

قال احدهم:

- نحن تحت اوامر السلطة، ماذا نعمل؟

ثم جاءوا بالاخ حسني مع سيارته امام الفندق، ليأخذ الأستاذ، وبدأ الناس بالتجمهر امام الفندق. وصرخ صاحب الفندق من اعلى السلم على الشرطي:

- انه ضيفي. كيف يجوز لكم ان تأخذوه مني؟

كان الناس في هياج شديد، حتى اخذوا يهتفون قائلين: كيف يؤخذ ضيف كريم مثل الأستاذ وهو على فراش الموت.

اصبح الناس في حالة لاتسمح للشرطة بالصعود إلى الفندق، وبدأوا يرجون من السائق ان يبعد السيارة من باب الفندق، ففعل، وعندها هدأ الناس قليلاً وبدأوا بزيارة الأستاذ مرة أخرى. فجاء موظفو الدولة والشرطة والعسكريون من جنود وضباط واعضاء الاحزاب.. كلهم لزيارة الأستاذ.

ثم بدأ اصرار الشرطة على مقابلة الأستاذ وابلاغه بأن الأمر صادر من الجهات العليا وان علينا الخروج من اورفة حالا. وقالوا:

- ان كنتم لاتغادرون المدينة بسيارتكم فسنأخذكم بسيارة اسعاف.

فأجبناهم:

- ان استاذنا مريض، وان مرضه شديد جداً، لايستطيع ان يتحمل قطع مسافة يوم كامل في السفر مرة أخرى. فضلا عن اننا لانتدخل في اموره، وبخاصة وهو في هذه الحالة التي هي اشبه ما تكون بالموت.

قال احدهم:

- ان الأمر قطعي لامرد له، فهو امر وزاري، فكما جاء استاذكم إلى هذه المدينة سيرجع كذلك. اخرجوا من اورفة حالا.

قلنا:

- نحن لانتدخل في امور الأستاذ، تعالوا قابلوه انتم بانفسكم واعرضوا عليه مطالبكم فان قال لنا: نذهب، فنحن ذاهبون، لاننا لانرد قوله ابداً ولايمكن ان نبلغه ما تقولونه.

فاستشاطوا غضباً وقالوا:

- ما هذا؟ الا تقدرون ان تقولوا له الشئ البسيط؟

- نعم! نحن لانقول له شيئاً، وكل ما يقوله ننفذه حرفياً.

قالوا:

ونحن ايضاً مرتبطون بالاوامر الرسمية هكذا، فيجب ان تتركوا اورفة في مدة اقصاها ساعتان، وترجعوا إلى إسپارطة.

وعندما سمع الناس بقضية اخراج الأستاذ من اورفة احتشد قرابة ستة آلاف شخص امام الفندق، وعندها ذهبنا إلى المستشفى لنخبر رئيس الصحة بحالة الأستاذ الصحية وانه لايستطيع السفر، وطلبنا منه اجراء الفحص على الأستاذ بنفسه.

اجرى الطبيب الفحص ثم التفت الينا:

- كيف تجرأتم على جلب الأستاذ إلى هنا، فدرجة حرارته عالية، وهو في حالة لايمكن تحريكه مطلقاً. تعالوا معي لازودكم بتقرير لجنة الاطباء بأنه لايمكن ان يحرك من مكانه..

نفدت طاقتي كلياً بعد صلاة المغرب من كثرة الوقوف والسهر والتعب، فقلت للاخ (زبير):

- انني متعب جداً، فلقد انهكني الوقوف. قال:

- اذهب ونم في الغرفة.

- تهيأوا للذهاب! اين السائق؟

اجبتهم:

- الأستاذ مريض جداً.

ثم جاء أحد عشر شرطياً وقالوا:

- تهيأوا حالا! ستذهبون إلى إسپارطة في الحال.

قلت لهم:

- سأبلغ الأستاذ بالأمر.

دخلت على الأستاذ واخبرته بالأمر، فسمح لهم بالدخول اليه، فقالوا:

- ان رجوعكم إلى إسپارطة امر صادر من وزارة الداخلية.

قال لهم الأستاذ:

- يا للعجب! لقد اتيت هنا لكي اموت فيه، وربما سأموت، وها انتم ترون حالي، دافعوا عني.

قال احدهم:

- نحن تحت اوامر السلطة، ماذا نعمل؟

ثم جاءوا بالاخ حسني مع سيارته امام الفندق، ليأخذ الأستاذ، وبدأ الناس بالتجمهر امام الفندق. وصرخ صاحب الفندق من اعلى السلم على الشرطي:

- انه ضيفي. كيف يجوز لكم ان تأخذوه مني؟

كان الناس في هياج شديد، حتى اخذوا يهتفون قائلين: كيف يؤخذ ضيف كريم مثل الأستاذ وهو على فراش الموت.

اصبح الناس في حالة لاتسمح للشرطة بالصعود إلى الفندق، وبدأوا يرجون من السائق ان يبعد السيارة من باب الفندق، ففعل، وعندها هدأ الناس قليلاً وبدأوا بزيارة الأستاذ مرة أخرى. فجاء موظفو الدولة والشرطة والعسكريون من جنود وضباط واعضاء الاحزاب.. كلهم لزيارة الأستاذ.

ثم بدأ اصرار الشرطة على مقابلة الأستاذ وابلاغه بأن الأمر صادر من الجهات العليا وان علينا الخروج من اورفة حالا. وقالوا:

- ان كنتم لاتغادرون المدينة بسيارتكم فسنأخذكم بسيارة اسعاف.

فأجبناهم:

- ان استاذنا مريض، وان مرضه شديد جداً، لايستطيع ان يتحمل قطع مسافة يوم كامل في السفر مرة أخرى. فضلا عن اننا لانتدخل في اموره، وبخاصة وهو في هذه الحالة التي هي اشبه ما تكون بالموت.

قال احدهم:

- ان الأمر قطعي لامرد له، فهو امر وزاري، فكما جاء استاذكم إلى هذه المدينة سيرجع كذلك. اخرجوا من اورفة حالا.

قلنا:

- نحن لانتدخل في امور الأستاذ، تعالوا قابلوه انتم بانفسكم واعرضوا عليه مطالبكم فان قال لنا: نذهب، فنحن ذاهبون، لاننا لانرد قوله ابداً ولايمكن ان نبلغه ما تقولونه.

فاستشاطوا غضباً وقالوا:

- ما هذا؟ الا تقدرون ان تقولوا له الشئ البسيط؟

- نعم! نحن لانقول له شيئاً، وكل ما يقوله ننفذه حرفياً.

قالوا:

ونحن ايضاً مرتبطون بالاوامر الرسمية هكذا، فيجب ان تتركوا اورفة في مدة اقصاها ساعتان، وترجعوا إلى إسپارطة.

وعندما سمع الناس بقضية اخراج الأستاذ من اورفة احتشد قرابة ستة آلاف شخص امام الفندق، وعندها ذهبنا إلى المستشفى لنخبر رئيس الصحة بحالة الأستاذ الصحية وانه لايستطيع السفر، وطلبنا منه اجراء الفحص على الأستاذ بنفسه.

اجرى الطبيب الفحص ثم التفت الينا:

- كيف تجرأتم على جلب الأستاذ إلى هنا، فدرجة حرارته عالية، وهو في حالة لايمكن تحريكه مطلقاً. تعالوا معي لازودكم بتقرير لجنة الاطباء بأنه لايمكن ان يحرك من مكانه..

نفدت طاقتي كلياً بعد صلاة المغرب من كثرة الوقوف والسهر والتعب، فقلت للاخ (زبير):

- انني متعب جداً، فلقد انهكني الوقوف. قال:

- اذهب ونم في الغرفة.

فذهبت ونمت حوالي ساعتين. ثم جاء الأخ زبير إلى الغرفة وقال: "أخي إنني قد نفد صبري، لم أغمض عيني هذا الأسبوع قط.. تعال لنتناوب.."

صلينا العشاء، ثم نام الأخ زبير. بقيت أنا والأخ حسني عند الأستاذ.

ثم قال الأخ حسني: "إن رجليّ بدأتا تؤلمانني من الوقوف والسهر، أريد أن أرتاح قليلاً".

قلت: "إنني مرتاح الآن، اذهب أنت أيضاً للنوم".

بقيت وحدي عند الأستاذ. وكان الأستاذ قد طلب منذ الصباح الباكر قطعة ثلج، لما كان يشعر به من شدة الحرارة، فبحثنا عن الثلج ولم نحصل عليه. وعندما حلّ الليل جاء بعض الأصدقاء وقد حصلوا على الثلج. فقلت: "أستاذي لقد حصلوا على قطع من الثلج!" فأشار بالرفض.

- أستاذي هل أحضر الشاي؟

فأشار بالرفض.

وعندما أشارت الساعة إلى الثانية والنصف ليلاً بدأت شفتا الأستاذ بالجفاف، وكنت أبلّلهما بمنديل. ثم كلما كنت أريد أن أغطيه يرفض، واستمر هكذا لفترة قصيرة.. أسدلت على المصباح شيئاً ليخفت ضوءه، لئلا يقلق ضوؤه راحة الأستاذ..

بدأت أرخى ساعديه فضمني إليه، ثم وضع يده على صدره، واستسلم للنوم.. فأشعلت المدفأة، وحيث كنت أظنه نائماً. انتظرت أن يصحو على السحور، فكنت أقول في نفسي:سوف يأتي الإخوة الآخرون ونتناول السحور معاً. فوا سذاجتاه! لم أكن أعلم أن الأستاذ قد فارقنا، وأنه قد انتقل إلى عالم الخلود، وأغمض عينه عن هذه الدنيا الفانية.

لم أكن قد رأيت سابقاً مثل هذه الحالة! فأنّى لي أن أعلم!

مضى وقت السحور كثيراً، وجاء الأخ حسني مع الأخ عبد اللّٰه وقالا: "لقد نمنا كثيراً أطلنا فيه".

قلت: "سأذهب إلى الغرفة المجاورة لأصلي الفجر، فلا تحركوا ساكناً لأن الأستاذ نائم".

ذهبت إلى الغرفة، صليت الفجر، قرأت الأذكار والأوراد اليومية، مع جزء من القرآن الكريم. وما إن أردت أن أطبق جفني لأنام حتى جاء الإخوة:

- يا أخانا، إن الأستاذ لا يحرك ساكناً.

- الأستاذ نائم فلا توقظوه.

ثم جاؤوا مرة أخرى وقالوا: "إن الأستاذ لا يتحرك أبداً.."

ذهبنا معاً إلى غرفة الأستاذ. جلس الأخ زبير بجانب رأسه ونحن الأربعة ننظر إليه، وليس للأستاذ أية علامة للحركة. ولكن درجة حرارته اعتيادية! فاضطربنا كثيراً. وقال الأخ زبير: "هذه الحالات تتكرر كثيراً لدى الأستاذ".

فخيم علينا الحزن، وعندها قال الأخ زبير: "هناك شخص يعرف مثل هذه القضايا اسمه "عمر أفندي الواعظ".

وحالما أتى الرجل ورأى وضع الأستاذ قال: "﴿إِنَّا لِلّٰهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ إخواني! إن الأستاذ قد مات".

لم أكن أصدق عيني بوفاة الأستاذ قطعاً. إذ عندما كنا في سجن "أفيون" سنة 1949 سمموا الأستاذ، فاحمر لسانه، فكنا نبكي بلا توقف على حاله، وعندها قال الأخ "أحمد فيضي" رحمه اللّٰه: "لماذا تبكون يا أطفال! إن حياة الأستاذ طويلة!".

وهنا أيضاً تذكرت قول الأخ أحمد فيضي مسلياً نفسي: ترى هل إن عمر الأستاذ يطول؟

هرع الإخوان ليبعثوا بالخبر إلى ولايات مختلفة من أرجاء البلاد.

سجينا الأستاذ بنسيج قطني رقيق. وبعد هنيهة جاء صاحب الفندق، ولما نظر إلى الأستاذ علم أنه قد توفي، وأخذ يضرب على فخذيه ويصرخ.

وعلى إثره جاء مدير الأمن واستفسر عن اضطراب صاحب الفندق. فأجابه:

- إن بديع الزمان قد مات.

- هل حقاً إنه مات!

- نعم!

فانسحب الشرطة كلهم من أمام الفندق، وجاء الطبيب الخاص ليتأكد من حالة الوفاة وقال: اللّٰه.. اللّٰه.. إن درجة حرارته مرتفعة جداً، هل لديكم مرآة؟

فوضع المرآة على فم الأستاذ، وتأكد من عدم تنفسه وانقطاعه كلياً، ثم قال: "نعم، إنه ميت! ولكن لا تشبه حالته حالة وفاة.. إنني أشك فيه، ولا أرى دفنه في الحال".

ثم كتب تقريره للمسؤولين.

ثم جاء قاضي التركات، وبدأ يثبت ما ورثه الأستاذ فكان:

ساعة، وسجادة، ولفاف الرأس، وجبة. فأعطي كلها لأخيه عبد المجيد.

بدأت ألوف من أهالي أورفة يحتشدون أمام باب الفندق، وأخبروا الولايات الأخرى كلها بهذا النبأ الفاجع.

أُخذ نعش الأستاذ من الفندق من بعد صلاة الظهر إلى غسله في "دَرْكاه" ووصلنا إليه بعد ساعتين أو أكثر حيث الازدحام كان شديداً جداً فقد أغلق أهالي أورفة محلاتهم. ولما ذهبوا بنعش الأستاذ أغمي عليّ وعلى الأخ حسني.

فخاطبَنا الأخ عبد اللّٰه: "هل أنتم أطفال.. أفيقوا!"

ولدى وصولنا إلى "دركاه" ليتم غسل الأستاذ، كان الازدحام لا يطاق حتى تعذر الدخول إلى هناك، ومع ذلك دخلنا واستطعنا أن نغسل الأستاذ هناك، وقام بغسله "ملا حميد أفندي" وهو من علماء أورفة المعروفين.(3)

وساعدَنا في الغسل الإخوان "زبير وحسني وعبد اللّٰه وخلوصي".

وبعدما تم الغسل أخذنا نعشه الطاهر إلى "أولو جامع" كي نختم على روحه القرآن الكريم. ظلت الجنازة في تلك الليلة في الجامع، وما إن تنفس الصبح حتى أصبح الازدحام في أورفة شديداً جداً، حيث أتى الناس من كل أنحاء تركيا. وقرأ الجميع الختمة القرآنية حتى الصباح وأهدوا ثوابها إلى روح الأستاذ.

ولشدة الازدحام فقد قدرنا أنه لن يتيسر الدفن في هذا اليوم... فاستدعانا الوالي، وبدأ يرجو منا ويلح بأن يدفن الأستاذ اليوم بعد صلاة العصر بدلا من يوم الجمعة لأن الازدحام أصبح لا يطاق في المدينة.

وفي الحال أُعلنَ عن أن صلاة الجنازة ستقام يوم الخميس بعد صلاة العصر.

حضر الوالي نفسه ورئيس البلدية وأقاموا صلاة الجنازة.

ولقد اندهشنا من ظاهرة عجيبة وهي أنه: عندما كان الأستاذ يُغسل كانت الأمطار تتساقط رذاذاً وشاهدنا عندها طيوراً ذات أشكال غريبة وألوان زاهية، وبأعداد هائلة جداً.

وهكذا دفن الأستاذ يوم الخميس بعد صلاة العصر. ولم يستطع كثير من الناس حضور تشييع الجنازة إلا من جاء بسيارات خصوصية. فلم يلحق من كانوا في أميرداغ، ومنهم الأخ جَيلان، فلقد حزن هذا الأخ حزناً عميقاً على تأخره عن الجنازة وقال: "لقد خدمت الأستاذ سنوات طوالا واليوم يا للأسف لم أحضر وفاته!" (*)

_______________

(1) سمعته من بيرام يوكسل وانظر Son Şahitler 3/83-90

(2) ولد في قضاء "أرمنك" التابع لولاية "قونيا" سنة 1920 ظل عشر سنوات ملازماً للاستاذ وفي خدمته ليل نهار حتى وفاة الاستاذ النورسي. توفي في 2/4/1971 رحمه الله رحمة واسعة.
(3) يروي "ملا حميد أفندي" هذه الخاطرة: "كنت معتكفاً في جامع "قاضي أوغلو" ورأيت في الرؤيا أن الأستاذ يقول لي: "عليك بحضور جنازتي، والقيام بغسلي، لأني سأموت".

قلت له: "إنه لا يجوز للمعتكف الخروج من الاعتكاف يا أستاذي! فماذا أعمل؟".

قال: "انظر إلى صحيفة كذا من "ملتقى الأبحر" فهناك ترى الجواز".

ولما استيقظت من النوم، أخذت الكتاب المذكور بسرعة وأنا بعد تحت تأثير الرؤيا، وفتحت الصفحة نفسها وإذا ما قاله الأستاذ نفسه. وعلى هذا فقد نلت شرف غسل جنازته". (ش) 451.

(*) كليات رسائل النور- سيرة ذاتية ص:476

 

قرئت 6 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد