اعرف حدك

 

قطرة نورية من كليات رسائل النورسي

احذر ان يلتبس عليك مقامك.

(طُوبى لمنْ عَرَف حدّه ولم يتجاوز طَوره).

ان هناك تجليات للشمس على كل شيء. ابتداءً من اصغر ذرة وبلورة زجاج وقطرة ماء ومن الحوض الكبير والبحر العظيم، وانتهاءً بالقمر والكواكب السيارة. كل منها يعرف حدّه ويطبع على نفسه انعكاس الشمس وصورتها حسب قابليته. فتستطيع قطرة ماءٍ أن تقول: عندي انعكاسٌ للشمس، وذلك حسب قابليتها. ولكن لا تجرؤ على القول: انا مرآة للشمس كالبحر.

كذلك الامر في مقامات الاولياء، ففيها مراتبٌ عدّة، حسب تنوّع تجليات الاسماء الإلهية الحسنى، فكلُ اسم من الاسماء الحسنى له تجلياتٌ – كالشمس في المثال – ابتداءً من القلب وانتهاءً بالعرش.

فالقلب عرشٌ، ولكن لا يستطيع ان يقول: (أنا كالعرش الاعظم). ومن هنا كان السالك في سبيل الفخر والغرور يلتبس عليه الامر فيجعل قلبه الصغير جداً كالذرة مساوياً للعرش الاعظم، ويعتبر مقامه الذي هو كالقطرة كفواً مع مقام الاولياء العظام الذي هو كالبحر.فبدلاً من أن يصرف همه لمعرفة اساس العبادة الذي هو العجز والفقر وادراك تقصيره ونقصه امام بارئه القدير والتضرع امام عتبة ألوهيته سبحانه والسجود عندها بكل ذل وخضوع، وتراه يبدر منه التصنع والتكلف لأجل أن يلائم نفسه ويحافظ عليها مع مستوى تلك المقامات السامية، فيقع فيما لا طائل وراءه من الغرور والانانية والمشاكل العويصة.

الخلاصة:

لقد ورد في الحديث الشريف: (هَلَك الناس الاّ العالمون وهلك العالمون الاّ العاملون وهلك العاملون الاّ المخلصون والمخلصون على خطرٍ عظيم)(1).

أي ان محور النجاة ومدارها الاخلاص، فالفوز به اذن امر في غاية الاهمية لأن ذرة من عمل خالص أفضل عند الله من أطنانٍ من الاعمال المشوبة. فالذي يجعل الانسان يحرز الاخلاص هو تفكره في ان الدافع الى العمل هو الامر الإلهي لا غير، ونتيجته كسب رضاه وحده، ثم عدم تدخله في الشؤون الإلهية.

ان هناك اخلاصاً في كل شيء. حتى أن ذرةً من حُبٍ خالص تفضل على اطنان من الحب الصوري الشكلي. وقد عبر احدهم شعراً عن هذا النوع من الحب:

وما انا بالباغي على الحب رشوةً ضعيفٌ هوىً يُبغى عليه ثوابُ أي لا أطلب على الحب رشوة ولا أجرة ولا عوضاً ولا مكافأة، لأن الحب الذي يطلب ثواباً ومكافأة حبٌ ضعيف لا يدوم. فهذا الحب الخالص قد أودعه الله سبحانه في فطرة الانسان ولاسيما الوالدات عامة، فشفقة الوالدة مثال بارز لهذا الحب الخالص.

والدليل على ان الوالدات لا يطلبن تجاه محبتهن لأولادهن مكافأة ولا رشوة قط هو جُودُهن بانفسهن لأجل اولادهن، بل فداؤهن حتى باخراهن لأجلهم. حتى ترى الدجاج تهاجم الكلب انقاذاً لأفراخها من فمها علماً أن حياتها هي كل مالديها من رأسمال.(*)

 

__________________________

(1) في كشف الخفاء (2796): قال الصغاني: وهذا حديث مفترىً ملحون، والصواب في الاعراب العالمين والعاملين والمخلصين ا هـ. واقول فيه: ان السيوطي نقل في النكت عن ابي حيان أن الابدال في الاستثناء الموجب لغةً لبعض العرب، وخرج عليها قوله تعالى: ﴿فشربوا منه الاّ قليلاً﴾ (البقرة:249) ا هـ وعليه فالعالمون وما بعده بدل مما قبله.

(*) كليات رسائل النور – اللمعة السابعة عشرة .. ص:200

قرئت 11 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد