التباس الواجب
قطرة نورية من كليات رسائل النورسي
احذر ان يلتبس عليك واجبك
ان الذين يعملون في طريق الحق ويجاهدون في سبيله، في الوقت الذي ينبغي لهم أن يفكروا في واجبهم وعملهم فانهم يفكرون فيما يخص شؤون الله سبحانه وتدبيره، ويبنون اعمالهم عليه فيخطئون.
ورد في كتاب (ادب الدنيا والدين) أن إبليس – لعنة الله عليه – حين ظهر لعيسى بن مريم عليه السلام قال: ألستَ تقول: إنه لن يُصيبك الاّ ما كتبه الله عليك؟ قال: نعم. قال: فارمِ نفسك من ذروةِ هذا الجبل فانه إن يقدِّر لك السلامة تسلم، فقال له: يا ملعون! إن لله أن يختبر عبده وليس للعبد أن يختبر ربه.
أي: ان الله سبحانه هو الذي يختبر عبده ويقول له: إذا عملت هكذا سأوافيك بكذا، أرأيتك تستطيع القيام به؟. يختبره.. ولكن العبد ليس له الحق ولا في طوقه اصلاً أن يختبر ربه ويقول: اذا قمتُ بالعمل هكذا فهل تعمل لي كذا؟. فهذا الاسلوب من الكلام الذي يوميء بالاختبار سوءُ ادبٍ تجاه الربوبية، وهو منافٍ للعبودية. فما دام الامر هكذا، فعلى المرء أن يؤدي واجبه ولا يتدخل بتدبير الله سبحانه وقَدَره.
كان جلال الدين خوارزم شاه(1) وهو احد ابطال الإسلام الذي انتصر على جيش جنكيز خان انتصارات عديدة. كان يتقدم جيشه الى الحرب، فخاطبه وزراؤه ومقربوه: سيُظهرك الله على عدوك، وتنتصر عليهم!
فاجابهم: (عليَّ الجهاد في سبيل الله إتباعاً لأمره سبحانه ولا حق لي فيما لم أُكلف به من شؤونه، فالنصر والهزيمة من تقديره سبحانه) ولبلوغ هذا البطل العظيم ادراك هذا السر الدقيق في الاستسلام الى امر الله والانقياد اليه، كان النصرُ حليفه في اغلب الاحيان نصراً خارقاً.
نعم انه ينبغي الاّ يفكر الانسان – بما لديه من الجزء الاختياري – بالنتائج التي يتولاّها الله سبحانه.
فمثلاً: يزداد حماس بعض الاخوة وشوقهم الى رسائل النور باستجابة الناس لها، فينشطون اكثر.. ولكن عندما لا يستجيب لها الناس، تفتُر قوة الضعفاء المعنوية وتنطفىء جذوة شوقهم. والحال ان سيدنا الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم وهو الاستاذ الاعظم ومقتدي الكل والرائد الاعلى قد اتخذ الامر الإلهي: ﴿وما على الرسول الاّ البلاغُ المبينُ﴾(النور:54) دليلاً ومرشداً له، فكلما أعرض الناس عن الاصغاء وتولوا عنه ازداد جهاداً وسعياً في سبيل التبليغ. لانه عَلم يقيناً ان جعل الناس يصغون ويهتدون انما هو من شؤون الله سبحانه، وفق الآية الكريمة: ﴿إنك لا تهدي مَن أحببتَ ولكنَ الله يَهدي مَن يشاءُ﴾(القصص:56). فما كان يتدخل صلى الله عليه وسلم في شؤونه سبحانه.
لذا فيا اخوتي! لا تتدخلوا في اعمال وشؤون لا تعود اليكم ولا تبنوا عليها اعمالكم ولا تتخذوا طور الاختبار تجاه خالقكم.(*)
__________________________
(1) هو الحاكم السابع والأخير لامبراطورية خوارزم، تصدى لأول مرة جيش جنكيزخان، وشتت جيش احد قواده، وفي سنة 1221 شتت ايضاً جيشاً كبيراً للمغول، ولكن اضطر الى الانسحاب الى الهند لتوالى هجوم المغول. وفي سنة 1224 احيا امبراطورية خوارزم في ايران ادت انتصاراته الى توجس السلاجقة والدولة الايوبية منه. فلم يجد منها عوناً. وفي سنة 1231 اضطر الى الانسحاب امام المغول الى جبال طوروس واغتيل هناك. – المترجم.
(*) كليات رسائل النور – اللمعة السابعة عشرة .. ص:198