اتخذ الصانع ماهية كل نوع من الموجودات مقياساً
قطرة نورية من كليات رسائل النورسي
لقد ذكرنا في خواتيم الكلمة السادسة والعشرين: ان صنّاعاً ماهراً، يكلف رجلاً فقيراً لقاء اجرة يستحقها ، ليقوم له بدور النموذج " الموديل " ليخيط لباساً راقياً، فاخراً في اجمل زينة واكثرها بهاءً، اظهاراً لمهارته وصنعته. لذا يفصّل على ذلك الرجل اللباس ويقصه ويقصره ويطوله، ويقعد الرجل وينهضه، ويجعله في اوضاع مختلفة.. فهل يحق لهذا الرجل الفقير ان يقول للصنّاع: لِمَ تبدل هذا اللباس الذي يجمّلني؟ ولِمَ تغيره؟ فتقعدني تارة وتنهضني اخرى فتفسد راحتي؟!
وكذلك الصانع الجليل (وله المثل الاعلى) قد اتخذ ماهية كلِ نوع من الموجودات مقياساً ونموذجاً "موديل"فألبس كل شئ لباساً مرصعاً بالحواس، ونقش عليه نقوشاً بقلم قضائه وقدره، واظهر جلوات اسمائه الحسنى، ابرازاً لكمال صنعته بنقوش اسمائه. فضلاً عن انه سبحانه يمنح كل موجود ايضاً كمالاً ولذة وفيضاً بمثابة اجرة ملائمة له.
فهل يحق لشئ ان يخاطب ذلك الصانع الجليل الذي هو مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء ويقول:" انك تتعبني وتفسد عليّ راحتي "؟ حاش للّه وكلا!
انه ليس للموجودات حق باية جهة كانت ازاء واجب الوجود، وليس لها ان تدّعي باي حقٍ مهما كان، بل حقها القيام بالشكر الدائم والحمد الدائم، اداءً لحق مراتب الوجود التي منحها اياها.لأن جميع مراتب الوجود الممنوحة للموجود انما هي وقوعات تحتاج الى علّة. بينما مراتب الوجود التي لم تمنح هي امكانات، والامكانات عدمٌ، وهي لاتتناهى، والعدم لايحتاج الى علة، فما لانهاية له لاعلة له.
مثل:لايحق للمعادن ان تشكو قائلة: لِمَ لم نصبح نباتاتٍ؟ بل حقها أن تشكر فاطرها الجليل على ما انعم عليها من نعمة الوجود كمعادن.
وكذا النبات ليس له حق الشكوى، فليس له أن يقول: لِمَ لم اصبح حيواناً؟ بل حقه الشكر للّه الذي وهب له الوجود والحياة معاً . وكذا الحيوان ليس له حق
الشكوى ويقول: لِمَ لم اكن انساناً؟ بل عليه حق الشكر لما أنعم الله عليه من الوجود، والحياة وجوهر الروح الراقي.. وهكذا فقس.
ايها الانسان الشاكي!انك لم تبق معدوماً، بل لبست نعمة الوجود. وذقت طعم الحياة. ولم تبق جماداً ولم تصبح حيواناً، فقد وجدت نعمة الاسلام، ولم تبق في غياهب الضلال، وتنعمت بنعمة الصحة والأمان.. وهكذا..
ايها الغارق في الكفران! أفبعد هذا تدعّي حقاً لك على ربك، انك لم تشكر ربك بعدُ على ما أنعم عليك من مراتب الوجود التي هي نعم خالصة. بل تشكو منه جل وعلا لما لم ينعم عليك من نعم غالية من انواع الامكانات وانواع العدم ومما لاتقدر عليه ولاتستحقه ،فتشكو بحرص باطل وتكفر بنعمه سبحانه.
ترى لو أن رجلاً أُصعد على قمة منارة عالية ذات درجات وتسلَّم في كل درجة منها هدية ثمينة ثم وجد نفسه في قمة المنارة، في مكان رفيع، أيحق له أن لايشكر صاحب تلك النعم ويبكي ويتأفف ويتحسر قائلاً: لِمَ لم اقدر على صعود ما هو أعلى من هذه المنارة..
ترى كم يكون عمله هذا باطلاً لو تصرف هكذا وكم يسقط في هاوية كفران النعمة! وكم هو في ضلالة مقيتة!. حتى البلهاء يدركون هذا.
ايها الانسان الحريص غير القانع! ويا ايها المسرف غير المقتصد! ويا ايها الشاكي بغير حق! ايها الغافل!
اعلم يقيناً: ان القناعة شكران رابح، بينما الحرص كفران خاسر، والاقتصاد توقير للنعمة جميل ونافع، بينما الاسراف استخفاف بالنعمة مضرّ ومشين.
فان كنت راشداً، عوّد نفسك على القناعة وحاول بلوغ الرضى. وان لم تطق ذلك فقل: ياصبور! وتجمّل بالصبر.وارض بحقك ولاتشكُ. واعلم ممن وإلى مَن تشكو! ألزم الصمت. واذا اردت الشكوى لامحالة فاشكُ نفسك الى الله، فان القصور منها.(*)
______________________
(*) كليات رسائل النور- المكتوب الرابع والعشرون - ص: 368