اطلاعه على العلوم الحديثة في "وان"
وقد اقتنع يقيناً ان أسلوب علم الكلام القديم قاصر عن ردّ الشبهات والشكوك الواردة حول الدين، فينبغي استحصال العلوم الحديثة أيضاً.
وقد حقق تشخيصه الداء هذا -وهو الشاب اليافع- تـهيئةَ الأجواء للخدمة القرآنية العظيمة والعمل الإسلامي الجليل في المستقبل، إذ وفقه سبحانه وتعالى بعد حوالي ثلاثين سنة لتأليف رسائل النور التي تجدد في علم الكلام.
فطفق يطالع كتب العلوم الحديثة حتى استحصل على أسسها من تاريخ وجغرافية ورياضيات وجيولوجيا وفيزياء وكيمياء وفلك وفلسفة وأمثالها من العلوم. وذلك خلال مدة قصيرة جداً. وسبر أغوار هذه العلوم بنفسه دون معونة أحد ودون اللجوء إلى مدرس يدرّسها إياه.
فمثلاً: حفظ عن ظهر قلب خلال أربع وعشرين ساعة كتاباً في الجغرافية، قبل أن يناظر في اليوم التالي مدرس الجغرافية ويلزمه الحجة في دار الوالي "طاهر باشا".
وعلى الشاكلة نفسها ألزم مدرس الكيمياء، بعد أن حفظ كتاباً في الكيمياء غير العضوية.
كان الوالي طاهر باشا يوجه أسئلة -علمية فلسفية- إليه مستخرجاً إياها من بطون الكتب الأوروبية وكان يجيب عن تلك الأسئلة أجوبة قاطعة مع أنه لم يطلع على تلك الكتب ولم يك يتقن اللغة التركية بعدُ، حيث بدأ التكلم بها حديثاً. وعندما شاهد -بعد فترة- تلك الكتب علم أن "طاهر باشا" يستخرج الأسئلة منها، فباشر بدراستها وهضم مضامينها في مدة قصيرة.
وخلال فترة بقائه في "وان" وضع طريقة خاصة به في التدريس تختلف عن الطرق المـتبعة آنذاك في المدارس الدينية، استخلصها من العلوم الحديثة التي استوعبها ومن ممارسته تدريس الطلاب، ومن أساليب الدراسة في المنطقة عامة آخذاً بنظر الاعتبار متطلبات العصر الحاضر وحاجاته الملحة. وترتكز طريقته هذه على إعطاء الحقائق الدينية "ممتزجة بالعلوم الحديثة" بأسلوب قريب لمدارك أبناء هذا العصر وإثباتها بأوضح أسلوب وعرضها بما يلائم تفكيرهم.
وذات يوم ذكر لـطاهر باشا وجود الجليد على قمم جبال "باشيد" حتى في شهر تموز، فاعترض عليه طاهر باشا قائلاً: لا تبقى الثلوج قطعاً على تلك القمم في شهر تموز.. وفي أثناء قضائه الصيف في مصايف باشيد و"بيت الشباب" تذكر هذه المحاورة التي جرت بينهما فكتب إليه رسالة هي أول رسالة له باللغة التركية وهي:
"يا باشـا! الجليد يكسو قمة باشيد.. لا تنكر ما لا تراه عينك.. لا ينحصر كل شيء ضمن معلوماتك.. والسلام".
وفي أثناء المناقشات العلمية مع طاهر باشا طرح عليه السؤال الآتي: "لو فرضنا وجود خمسة عشر مسلماً وخمسة عشر غير مسلم. وقد اصطف كل غير مسلم وراء مسلم في صف واحد. وطلب إجراء قرعة خمس عشرة مرة بحيث تقع على غير المسلم في كل مرة. فكيف يمكن إجراء التقسيم؟"
فأجاب: "هناك مائة وأربعة وعشرون احتمالاً لهذا". ثم أعقب قوله: "إنني أحدث مسألة أكثر إشكالاً من هذه فاجعلها باحتمال ألفين وخمسمائة". فأوجد مسألة باحتمال ألفين وخمسمائة، بحيث يكون عدد المسلمين خمسين شخصاً وعدد غير المسلمين خمسين شخصاً وقدّمها إلى طاهر باشا ضمن رسالة ألّفها في الرياضيات بيد أنها فقدت في إحدى الحرائق التي نشبت في مدينة "وان".
وهكذا كانت تدور مناقشات رياضية وعلمية أمثال هذه بكثرة، مما يبين الذكاء الخارق الذي كان يتمتع به، فما من مسألة رياضية طرحت أمامه إلاّ وحلهّا في ذهنه ويسبق الجميع في أمثال هذه المسابقات الذهنية.
وهكذا لتعدد مواهبه ولذكائه الخارق وقوة ذاكرته، أطلق العلماء عليه لقب "بديع الزمان".([1])
[1]() T. Hayat, ilk hayatı.
