موقفه من جون تورك (1)

[كان الأستاذ النورسي يحسن الظن بالطيبين منهم بادئ الأمر كما هو واضح في محاورته العشائر]:

«س: كنا نسمع سابقاً وإلى الآن أن أكثر أفراد "جون تورك" هم من الماسونيين، الذين يعادون الدين.

ج: لقد ألقى الاستبداد هذه التلقينات إبقاءً لنفسه، ومما يسند هذا الوهم ويقوّيه عدم مبالاة بعضهم بالدين. لكن اطمئنوا، إن قصد من لم ينضم منهم إلى الماسونية، ليس الإضرار بالدين، بل نفع الأمة وتأمين سلامتها، ولكن البعض منهم يفرطون في الهجوم على التعصب المقيت الذي لا يليق بالدين. ويبدو أنكم تطلقون على الذين سبق منهم خدمات للحرية والمشروطية أو الذين ارتضوا بهما اسم "جون تورك". فاعلموا أن قسماً من أولئك هم مجاهدو الإسلام، وقسماً منهم فدائيو سلامة الأمة، فالذين يشكلون القسم الأعظم منهم والعقدة الحياتية لهم هم من غير الماسونيين ويمثلون أكثرية الاتحاد والترقي.([2]) فهناك علماء ومشايخ في صفوف "جون تورك" بقدر عشائركم.. رغم وجود زمرة من الماسونيين المفسدين السفهاء فيهم، وهم قلّة قليلة لا يتجاوزون عشرة بالمائة منهم، بينما التسعون بالمائة الباقية منهم مسلمون ذوو عقيدة أمثالكم ومعلوم أن الحكم للأكثرية.. فأحسنوا الظن بهم، إذ إن سوء الظن يضركم ويضرهم معاً.([3])

س: لِمَ تحسن الظن -كلما أمكنك ذلك- بحكومة المشروطية وأفراد "جون تورك" غير الملحدين؟.

ج: لأنكم تسيئون الظن بهم كلما تيسّر لكم ذلك، فأنا أحسن الظن بهم، فإن كانوا بمثل ما أقول فبها ونِعمَت، وإلاّ فأنا أرشدهم إلى الصواب كي يسلكوه.

س: ما رأيك في الاتحاد والترقي؟.

ج: مع أنني أثمّن قيمتهم إلاّ أنني أعترض على الشدّة التي يزاولها سياسيوهم وأهنئ في الوقت ذاته واستحسن -إلى حدٍّ ما- فروعهم وشعبهم الاقتصادية والثقافية ولاسيما في الولايات الشرقية.([4])

إن سعيداً القديم على الرغم من معارضته الشديدة لمنظمة "الاتحاد والترقي" مال إلى حكومتها ولاسيما إلى الجيش، حيث وقف منهم موقف تقدير وإعجاب والتزام وطاعة. وما ذاك إلاّ بما كان يحس به من إحساس مسبق من أن تلك الجماعات العسكرية والجمعية الملية سيظهر منهم بعد سبع سنوات مليون من الشهداء الذين هم بمرتبة الأولياء. فمال إليهم طوال أربع سنوات دون اختيار منه، وبمـا يخالف مشربه. ولكن بحلول الحرب العالمية وخضّها لهم أُفرز الدهن المبارك من اللبن فتحول إلى مخيض لا قيمة له. فعاد "سعيد الجديد" إلى الاستمرار في جهاده وخالف سعيداً القديم.([5])

وقد كنت أرى -في بداية عهد الحرية- ملحدين داخلين ضمن الاتحاديين يقولون: إن في الإسلام والشريعة المحمدية دساتير قيمة شاملة نافعة جداً وجديرة بالتطبيق للمجتمع البشري ولاسيما للسياسة العثمانية. فكانوا ينحازون إلى الشريعة المحمدية بكل ما لديهم من قوة، فهم من هذه النقطة مسلمون، أي يلتزمون الحق ويوالونه، مع أنهم غير مؤمنين، بمعنى أنهم أهل لأن يدعوا: "مسلمون غير مؤمنين".

أما الآن فهناك مَن يعتقد بنفسه الإيمان، فيؤمن باللّٰه ورسوله واليوم الآخر، إلاّ أنه يوالى التيارات المناهضة للشريعة والموافقة للأجانب، تحت اسم المدنية. ولما كان لا يلتزم بقوانين الشريعة الأحمدية التي هي الحق والحقيقة ولا يواليها موالاة حقيقية، فيكون إذن مؤمناً غير مسلم. ويصح القول: كما أن الإسلام بلا إيمان لا يكون سبباً للنجاة كذلك الإيمان بلا إسلام -على علم- لا يصمد ولا يمنح النجاة».([6])

 

[1]() جون تورك (تركيا الفتاة): مشتقة من العبارة الفرنسية (Jeunes Turces) يطلق هذا الاسم على الجماعات والأفراد المعارضين للحكم في الدولة العثمانية منذ عهد السلطان عبد العزيز. تتلخص مطاليب هذه الجماعات والأفراد في إعلان الدستور وتأسيس حياة برلمانية. وتعدّ جمعية الاتحاد والترقي أقوى هذه الجماعات تأثيرا.

 

[2]() الاتحاد والترقي: جمعية سرية شكلها طالب ألباني في المدرسة الطبية العسكرية السلطانية يدعى "إبراهيم تمّو" مع قسم من أصدقائه من الطلبة سنة 1889، وكانت تهدف إلى خلع السلطان عبد الحميد الثاني، ورفعت شعار "حرية، مساواة، عدالة"، ساعدتها المحافل الماسونية، وانتسب كثير من أعضائها إليها، كما أن دولاً أوروبية عديدة مدت لها يد المساعدة. استفحل أمرها عندما تغلغلت في صفوف الجيش الثالث العثماني في مدينة "سلانيك" التي كانت مقراً ليهود "الدونمة" وفيها محفل الماسونية، وبدأت حركة تمرد في هذا الجيش وأرسل زعماء الحركة هذه برقيات تطالب السلطان بإعلان الدستور وإعادة مجلس المبعوثان (النواب)، واضطر السلطان حقناً للدماء إلى إعلان المشروطية الثانية سنة 1908. وبعد سنة من إعلانه الدستور تم خلعه ونفيه إلى "سـلانيك" ونُصب أخوه محمد رشاد مكانه، ورغم أن الاتحاد والترقي قد حقق إصلاحات في الإدارة والجيش إلا أنه قبض على الحكم بيد من حديد وأقام دكتاتورية ظالمة، وورط الدولة في الحرب العالمية الأولى، وبعد إعلان هدنة موندروس في 30/10/1918بيوم هرب زعماء هذه الجمعية إلى خارج البلاد.

 

[3]() صيقل الإسلام، المناظرات.

[4]() صيقل الإسلام، المناظرات.

[5]() الملاحق، ملحق قسطموني.

 

[6]() الملاحق، ملحق بارلا.

Ekranı Genişlet