حادثة 31 مارت [13 نيسان 1909م] 

 

«لقد شاهدتُ الحركة الرهيبة التي حدثت في 31 مارت لبضع دقائق، فسمعت مطالب عدة؛ فكما إذا أديرت ألوان سبعة بسرعة لا يظهر إلاّ اللون الأبيض فكذلك لم يظهر من تلك المطالب إلاّ لفظ الشريعة التي تخفف فساد تلك المطالب المتباينة من الألف إلى الواحد، وتنقذ العوام من الفوضى والاضـطراب، والتي تحافظ حفاظاً معجزاً على السياسة من أن تكون لعبة بيد الأفراد. فأدركت أن الأمر ينساق إلى الفسـاد؛ إذ الطاعة قد اختلت، والنصائح لا تجدي؛ وإلاّ كنت اندفع إلى إطفاء تلك النار مثلما كنت أطفئ غيـرها، ولكن العوام هم الأغلبية، وأصدقائي غافلون وبسطاء، وأنا أظهر بمظهر الشهرة الكاذبة.

فبعد ثلاث دقائق انسحبتُ ذاهباً إلى "باقركُويْ"([2]) كي أحُول بين معارفي وبين المشاركة في الأمر. وأوصيت كل من قابلني بعدم المشاركة. فلو كان لي نية في المشاركة -بمقدار أنملة- لكنت أظهر على مسرح هذا الحدث ظهوراً عظيماً حيث إن ملابسي تعلن عني وشهرتي التي لا أريدها ذائعةٌ بين الجميع. وربما كنت أثبت وجودي بمقاومة جيش الحركة إلى "أياستافانونس".([3]) ولو وحدي ثم أموت بشرف ورجولة. وعندئذٍ كان تدخلي في الأمور من البديهيات. فلا تبقى حاجة إلى التحقيق.

وفي اليوم الثاني استفسرت من الجنود المطيعين -الذين هم يمثلون عقدة الحياة لنا - فقالوا إن الضباط قد لبسوا ملابس الجنود، فالطاعة ليست مختلة كثيراً.

ثم كررت السؤال: كم من الضباط أصيبوا؟ فخدعوني قائلين: أربعة فقط، وهؤلاء كانوا من المستبدين. وسوف تنفذ آداب الشريعة وحدودها.

ثم تصفحت الجرائد ورأيت: أنها أيضاً ترى تلك الحركة حركة مشروعة وتصورها على هذه الصورة، ففرحت من جهة، لأن أقدس غاية لديّ هي تطبيق الأحكام الشرعية تطبيقاً كاملاً. ولكن يئست أشد اليأس وتألمت كثيراً باختلال الطاعة العسكرية. فخاطبت الجنود بلسان جميع الجرائد وقلت:

"أيها الجنود! إن كان ضباطكم يظلمون أنفسهم بإثم واحد فإنكم بعصيانكم تظلمون حقوق ثلاثين مليوناً من العثمانيين وثلاثمائة مليونٍ من المسلمين. لأن شرف العثمانيين وعامة المسلمين وسعادتهم ولواء وحدتهم قائمة -بجهة- في طاعتكم.

ثم إنكم تطالبون بالشريعة ولكنكم تخالفونها بعصيانكم هذا".

ولقد باركتُ حركتهم وشجاعتهم لأن الصحف التي هي ألسنة كاذبة للرأي العام قد أظهرت لنا أن حركتهم مشـروعة. فلقد تمكنت -بتقديرهم هذا- أن أؤثّر بنصيحتي فيهم. فهدّأتُ العصيان إلى حدٍ ما. وإلاّ لما كان الأمر يكون سهلاً.([4])

ولكن وا أسفى، لقد وضع المعجبون بالتطرف في هذه الحادثة سداً أمام رغبات الأمة المشتاقة إلى المشروطية المشروعة التي فيها سعادتنا ومنبع حياتنا الاجتماعية العطشى إلى المعارف والعلوم الحديثة المنسجمة مع الإسلام، وذلك بإلقائهم الأغراض الشخصية والفتن في المشروطية. زد على ذلك أعمال المثقفين المتسمة بالإلحاد وعدم الاكتراث بالدين.([5])

ولقد رأيت في حادثة (31 مارت) حالة قريبة من هذا: عندما نادى من كانوا يجودون بأرواحهم للإسلام من أصحاب الهمم بالدعوة إلى المشروطية، والذين كانوا يعتقدون أن نعمة المشروطية غاية المنى وجوهر الحياة، وجدّوا في تطبيق تفرعاتها وفق الشـريعة مرشدين المسؤولين في الدولة وموجهين لهم للتوجه إلى القبلة في صلاة العدالة طالبين إعلاء الشريعة المقدسة حقاً بقوة المشروطية، وإبقاء المشروطية بقوة الشريعة، محمّلين مخالفة الشريعة السيئات السابقة جميعَها، فما إن نادى هؤلاء بهذا النداء وقاموا بتطبيق بعض الأمور الفرعية إذا ببعض مَن لا يميّز يمينه عن شماله يبرز أمامهم ويجابهونهم ظناً منهم أن الشريعة تشد أزر الاستبداد -حاشـاها- فقلّدوا كالببغاء منادين: "إنّا نطالب بالشريعة" فاختفى الهدف ولم يعد يُفهم القصـد الحقيقي، وانجر الوضع إلى ما رأيتم. ومعلوم أن الخطط قد مُهّدت وحيكت من قبل. فلما آل الأمر إلى هذا هجم بعض من يتقنع كذباً بالحميّة على ذلك الاسم السامي، واعترضوا متعدين عليه. فدونكم نقطة سوداء مظلمة جديرة بالاعتبار.([6]) ذلك أن ما يسمى بحادثة 31 مارت، ذلك الطوفان الرهيب والصاعقة المحرقة، قد هُيأت -تحت أسباب اعتيادية- استعداداً طبيعياً بحيث ورد -من عند اللّٰه- على لسان القائمين بها اسم الشريعة المظهرة معجزتها دوماً رغم أن نتائج تلك الحادثة كانت الهرج والمرج.

ولأن اسم الشريعة جعل ذلك الطوفان يمر بسلام فانه يُدين -أمام اللّٰه- تلك الصحف التي أطلقت لسانها بالسوء بعد منتصف نيسان.

فإذا ما أُخذ بنظر الاعتبار الأسباب السبعة والأحوال السبع التي أدّت إلى تلك الحادثة تظهر الحقيقة بجلاء وهي كالآتي:

1- لقد كان تسعون بالمائة من هذه الحركة موجهة ضد الاتحاد والترقي وضد استبدادهم ودكتاتوريتهم.

2- كما كانت ترمي إلى تبديل الوزراء الذين كانوا محل نقاش وجدال بين الفرقاء والأحزاب.

3- إنقاذ السلطان المظلوم من الخلع الذي قد تقرر وصُمّم عليه.

4- منع التعليمات وإنهاء التلقينات التي لا تليق بالآداب العسكرية والآداب الدينية.

5- الكشف عن قاتل السيد "حسن فهمي"(*) بعد أن تم تضخيم موضوع اغتياله.

6- تسـوية موضوع الضباط "آلايلي"([7]) الذين اُخرجوا من الخدمة العسكرية وإنصافهم.

7- الوقوف تجاه تعميم مفهوم الحرية على التصـرفات السفيهة، أي تحديد معنى الحرية بالآداب الشرعية، ثم القيام بتطبيق الحدود الشرعية التي لا يفهم العوام منها سوى القصاص وقطع اليد.

بيد أن الأرضية الآسنة كانت مهيأة، والخطط والمنـزلقات كانت جاهزة حتى ذهبت الطاعة العسكرية السامية جداً ضحية لها.

إن أس أساس الأسباب هو المناقشات العنيفة المتحيّزة للفرقاء "الأحزاب" وغلو الصحف في المجادلات المبالغ فيها بالكذب عوضاً عن بلاغة الكلام...»([8])

 

[1]() نشب عصيان بين أفراد الطابور العسكري الذي كان قد أُرسل من قبل الاتحاديين من مدينة سلانيك إلى إسطنبول لحماية المشروطية. فقد ثار الجنود وحبسوا ضباطهم في الثكنة واجتمعوا في منتصف ليلة 31 مارت 1325 رومي (الموافق 22ربيع الأول 1327هـ) في ميدان "السلطان أحمد" حيث انضم إليهم بعض الجنود من المعسكرات الأخرى معلنين عصياناً دام أحد عشر يوما، راح ضحيته بعض الأشخاص.. وساد جو من الهرج والمرج وإطلاق الرصاص عبثاً، وكان الجنود يهتفون: نريد الشريعة.. نريد الشريعة.. انتهت هذه الحادثة بوصول جيش الحركة الذي وجّهه الاتحاديون من سلانيك، بقيادة "محمود شوكت باشا" لقمع العصيان وإعادة سلطة الاتحاديين فوصل إلى إسطنبول في 23/4/1909. فسيطر على الوضع. كما أُعلنت الأحكام العرفية وشكلت محكمة عسكرية لمحاكمة المسؤولين عن هذه الحادثة. (وعزل السلطان عبدالحميد في 27/4/1909 الموافق ليوم 6 ربيع الآخر 1327 الساعة 32-1 زوالية، رغم أن الحاميات الموجودة في إسطنبول وخاصة حامية قصر يلدز كانت أقوى بكثير من جيش الحركة إلا أن السلطان رفض بشدة طلب قواده تشتيت هذا الجيش لئلا تراق الدماء من أجله (عن "تاريخ الدولة العثمانية" لإسماعيل دانشمند 4/375).

[2]() أحد أحياء إسطنبول.

 

[3]() منطقة في ضواحي إسطنبول (يشيل كوي).

[4]() صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.

[5]() صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.

[6]() صيقل الإسلام، المناظرات.

[7]() ضباط آلايلي: هم الضباط الذين ترقوا من الجندية، ولم يكونوا من خريجي الكلية الحربية.

[8]() صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.

Ekranı Genişlet