ذكريات من أيام الأسر
«عندما كنت أسيراً في روسيا، كانت الشمس لا تغرب أسبوعاً في مكان قريب منا، حتى كان الناس يخرجون لمشاهدة المنظر الغريب للغروب.([1])
وقد كنا في قوصتورما، في روسيا، مع تسعين من ضباطنا الأسرى في ردهة واحدة، وكنت أُلقي عليهم أحياناً الدرس. وذات يوم حضـر القائد الروسي وشاهد الموقف وقال: إن هذا الكردي قائد المتطوعين قد ذبح كثيراً من جنودنا، ويأتي الآن ويلقى دروساً سياسية هنا، لا يمكن هذا، أمنعه قطعاً.
ولكن بعد يومين قال: يبدو أن دروسكم غير سياسية، بل دينية وأخلاقية. استمر عليها فسمح بإلقاء الدرس.([2])
وعلى الرغم من أن الروس كانوا ينظرون إليّ بصفة قائد للمتطوعين الأكراد والظالم الذي يذبح الأسرى والقازاق، إلاّ أنهم لم يمنعوني من إلقاء الدروس، فكنت أُلقيها على معظم زملائي الأسرى من الضباط البالغ عددهم تسعيـن ضابطاً، حتى إن القائد الروسي استمع مرة إلى الدرس، فحسبه درساً سياسياً، لجهله باللغة التركيـة، ومنعني مرة واحدة فقط ولكنه سمح لي بعد ذلك. ثم إننا جعلنا غرفة في الثكنة التي كنا فيها مسجداً لأداء الصلاة جماعةً، وكنت أؤم الجماعة، ولم يتدخلوا في ذلك قط، ولم يمنعونا من الاختلاط والاتصال بعضنا مع البعض ولم يقطعوا عنا المراسلات.([3])
ولما كنت مع تسعين من ضباطنا -في الحرب العالمية السابقة- أسرى معتقلين في ردهة طويلة، في شمالي روسيا، كنت لا أسمح بالضوضاء والصخب بإسداء النصح لهم، إذ كانوا يحترمونني بما يفوق قدري بكثير، ولكن على حين غرة أثار الغضبُ الناشئ من توتر الأعصاب والانقباض المستولي على النفوس مناقشاتٍ حادة. فقلت لبضعٍ منهم: "اذهبوا إلى حيث الضجيج والصياح، وساندوا المبطل دون المحق". وقد قاموا بدورهم. فانقطع دابر المناقشات الضارة.
ثم سألوني: "لِمَ قمت بهذا العمل الباطل؟".
قلت لهم: "إن المحقّ يكون منصفاً ويضحي بحقه الجزئي في سبيل راحة الآخرين ومصلحتهم التي هي كثيرة وكبيرة. أما المبطل فهو على الأغلب مغرور وأناني لا يضحي بشيء، فيزداد الصخب!"».([4])
[1]() الكلمات، الكلمة الرابعة والعشرون، الغصن الثاني.
[2]() الشعاعات، الشعاع الرابع عشر.
[3]() المكتوبات، المكتوب السادس عشر.
[4]() الشعاعات، الشعاع الثالث عشر.
