عرض مراحل السير نحو سعيد الجديد
«كان سعيد القديم -قبل حوالي خمسين سنة- لزيادة اشتغاله بالعلوم العقلية والفلسفية يتحرى مسلكاً ومدخلاً للوصول إلى حقيقة الحقائق، داخلاً في عداد الجامعين بين الطريقة والحقيقة. وكان لا يقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدها -كأكثر أهل الطريقة- بل جهد كل الجهد أولاً لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثتها إيّاه مداومة النظر في كتب الفلاسفة.
ثم أراد -بعد أن تخلّص من هذه الأسقام- أن يقتدي ببعض عظماء أهل الحقيقة، المتوجهين إلى الحقيقة بالعقل والقلب، فرأى أن لكلٍ من أولئك العظماء خاصيّة جاذبة خاصة به، فحار في ترجيح بعضهم على بعض.
فخطر على قلب ذلك السعيد القديم الممخض بالجروح - ما في مكتوبات "الإمام الرباني" من أمره له غيباً: "وحِّد القبلة" أي إن الأستاذ الحقيقي إنما هو القرآن ليس إلاّ، وإن توحيد القبلة إنما يكون بأستاذية القرآن فقط، فشرع بإرشادٍ مِن ذلك الأستاذ القدسي بالسلوك بروحه وقلبه على أغرب وجه، واضطرته نفسه الأمارة بشكوكها وشبهاتها إلى المجاهدة المعنوية والعلمية.
وخلال سلوكه ذلك المسلك ومعاناته في دفع الشكوك، قَطَع المقامات، وطالع ما فيها، لا كما يفعله أهل الاستغراق مع غض الأبصار، بل كما فعله الإمام الغزالي والإمام الرباني وجلال الدين الرومي، مع فتح أبصار القلب والروح والعقل، فسار فيها -أي في المقامات- ورأى ما فيها بتلك الأبصار كلها، منفتحةً من غير غضٍ ولا غمض. فحمداً للّٰه على أن وُفِّق على جمع الطريقة مع الحقيقة بفيض القرآن وإرشاده، حتى بيّن برسائل النور التي ألفها "سعيد الجديد" حقيقةَ:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد([1])
لقد كان في سياحته وسلوكه ذلك السلوك في تلك المقامات، ساعياً بالقلب تحت نظَارَة العقل، وبالعقل في حماية القلب كالإمام الغزالي والأمام الرباني وجلال الدين الرومي، فبادر إلى ضماد جراحات قلبه وروحه، وخلّص نفسه من الوساوس والأوهام. وبخلاصه منها انقلب سعيد القديم إلى سعيد الجديد، فألّف بالعربية ما هو بحكم المثنوي الشريف -الذي هو أصلاً بالفارسية- رسائل عدة في أوجز العبارات. وكلما سنحت له الفرصة أقدم على طبعها، وهي: "قطرة، حباب، حبة، زهرة، ذرة، شمة، شعلة ودروس أخرى" مع رسالتين بالتركية وهما: "لمعات ونقطة". ([2])وبيّن ذلك المسلك في غضون نصف قرن من الزمان في رسائل النور التي لم تقتصر على جهاد النفس والشيطان، بل أصبحت شبيهة بمجموعة كلية واسعة من "المثنوي" تنقذ الحيارى المحتاجين وتنتشل المنساقين إلى الضلالة من أهل الفلسفة.
إن المناظرة الجارية بين ذينك السعيدين -سعيد القديم والجديد- كانت دافعة للشيطان، قاهرةً للنفس، حتى غدت رسائل النور طبيبة حاذقة لذوي الجراحات من طلاب الحقيقة، وأصبحت مُلزمةً ومُسكتةً لأهل الإلحاد والضلالة». ([3])
[1]() لأبي العتاهية في ديوانه، وينسب إلى علي كرم اللّٰه وجهه، ونسبه ابن كثير في تفسيره إلى ابن المعتز.
[2]() بدأ بتأليف هذه الرسائل في الأشهر الأخيرة من سنة 1921م وأتمها في 4/1923.
والتي طبعت منها باللغة العربية:
1-قطرة من بحر التوحيد وذيل القطرة (ط. 1922).
2-شمة من نسيم هداية القرآن وذيل الشمة (ط. 1922).
3-حبة من نواتات ثمرة من ثمرات جنان القرآن وذيل الحبة (ط. 1922).
4-زهرة من رياض القرآن الحكيم وذيل الزهرة (ط. 1923).
5-ذرة من شعاع هداية القرآن (ط. 1922)وذيل الذرة (ط. 1923).
6-باب من عمان القرآن وذيل الحباب (ط. 1923).
7-شعلة من أنوار شمس القرآن (ط. 1923).
وطُبعت منها باللغة التركية:
8-لمعات (ط. 1921).
9- نقطة من نور معرفة اللّٰه جل جلاله (ط. 1921).
[3]() المثنوي العربي النوري، مقدمة المؤلف.
