سنة 1922م/1339هـ
نفور من الحياة الاجتماعية وانقلاب روحيّ
«بعدما نجوت من أسر الروس في الحرب العالمية الأولى، لبثت في إسطنبول لخدمة الدّين في "دار الحكمة الإسلامية" حوالي ثلاث سنوات. ولكن بإرشاد القرآن الكريم وبهمّة الشيخ الگيلاني، وبانتباهي بالشيخوخة، تولّد عندي سأم وملل من الحياة الحضارية في إسطنبول، وبت أنفر من حياتها الاجتماعية البهيجة، فساقني الشوق والحنين المسمى بـ"داء الغُربة" إلى بلدتي، إذ كنت أقول: ما دمت سأموت فلأمت إذن في بلدتي. ([1])
نعم، هكذا جاءني النفور من تلك الحياة الدنيوية البهيجة في إسطنبول التي ظاهرها اللذة، من ذلك التأمل والنظر في شعيراتٍ بيضاء لرأسي ولحيتي، ومن عدم الوفاء الذي بدر من الصديق الوفي المخلص.. حتى بدأت النفس بالبحث والتحري عن أذواق معنوية بدلا عما افتتنت به من أذواق، فطلبت نوراً وسلواناً في هذه الشيخوخة التي تبدو ثقيلة ومزعجة ومقيتة في نظر الغافلين. فللّٰه الحمد والمنّة وألف شكر وشكر له سبحانه أن وفقني لوجدان تلك الأذواق الإيمانية الحقيقية الدائمة في "لا إله إلاّ هو" وفي نور التوحيد بدلا من تلك الأذواق الدنيوية التي لا حقيقة لها ولا لذة فيها، بل لا خير في عقباها. وله الحمد أن وفقني كذلك لأجد الشيخوخة خفيفة الظل أتنعم بدفئها ونورها بخلاف ما يراه أهل الغفلة من ثقل وبرودة. ([2])
ففي بداية شيخوختي ومستهلها، ورغبة منّى في الانزواء والاعتزال عن الناس، بحثَتْ روحي عن راحة في الوحدة والعزلة على "تل يوشع" المطل على البسفور. ([3]) فلما كنت -ذات يوم- أسرح بنظري إلى الأفق من على ذلك التل المرتفع، رأيت بنذير الشيخوخة لوحة من لوحات الزوال والفراق تتقطر حزناً ورقة، حيث جُلتُ بنظري من قمة شجرة عمري، من الغصن الخامس والأربعين منها، إلى أن انتهيت إلى أعماق الطبقات السفلى لحياتي، فرأيت أن في كل غصن من تلك الأغصان الكائنة هناك ضمن كل سنة جنائز لا تحصر من جنائز أحبابي وأصدقائي وكل مَن له علاقة معي، فتأثرت بالغ التأثر من فراق الأحباب وافتراقهم، وترنمت بأنين "فضولي البغدادي"(*) عند مفارقته الأحباب قائلاً:
كلما حنَّ الوصــال عَذبٌ دمعي مادام الشهيق
لقد بحثتُ من خلال تلك الحسرات الغائرة عن باب رجاء، وعن نافذة نور، أسلّى بها نفسي، فإذا بنور الإيمان بالآخرة يغيثني ويمدّني بنور باهر، إنه منحني نوراً لا ينطفئ أبداً، ورجاءً لا يخيب مطلقاً. ([4])
وعلى "تل يوشع" المطل على البسفور بإسطنبول، عندما قررت ترك الدنيا، أتاني أصحاب أعزاء، ليثنوني عن عزمي ويعيدوني إلى حالتي الأولى، فقلت لهم: "دعوني وشأني إلى الغد، كي أستخير ربي". وفي الصباح الباكر خطرت هاتان اللوحتان إلى قلبي، وهما شبيهتان بالشعر، إلاّ أنهما ليستا شعراً، وقد حافظت على عفويتهما وأبقيتهما كما وردتا لأجل تلك الخاطرة الميمونة...
اللوحة الأولى (وهي لوحة تصور حقيقة الدنيا لدى أهل الغفلة)
لا تدعُني إلى الدنيا، فقد جئتها ورأيت الفساد.
إذ لما صارت الغفلة حجاباً، وسترتْ نور الحق..
رأيت الموجودات كلها، فانية مضرة
إن قلتَ: الوجود! فقد لبسته، ولكن كم عانيت من البلاء في العدم.
وإن قلتَ: الحياة! فقد ذقتها، ولكن كم قاسيت العذاب.
إذ صار العقل عقاباً، والبقاء بلاءً
والعمر عين الهواء، والكمال عين الهباء.
والعمل عين الرياء، والأمل عين الألم.
والوصال عين الزوال، والدواء عين الداء.
والأنوار ظلمات، والأحبابُ أيتاماً.
والأصوات نعيات، والأحياء أمواتاً.
وانقلبت العلوم أوهاماً، وفي الحِكَم ألف سقم.
وتحولت اللذائذ آلاماً، وفي الوجود ألف عدم.
وإن قلتَ: الحبيب! فقد وجدته، آه! كم في الفراق من ألم.
اللوحة الثانية (وهي لوحة تشير إلى حقيقة الدنيا لدى أهل الهداية)
لما زالت الغفلة، أبصرت نور الحق عياناً.
وإذا الوجود برهان ذاته، والحياة مرآة الحق..
وإذا العقل مفتاح الكنـز، والفناء باب البقاء.
وانطفأت لمعة الكمال، وأشرقت شمس الجمال..
فصار الزوال عين الوصال، والألم عين اللذة.
والعمر هو العمل نفسه، والأبد عين العمر.
والظلامُ غلاف الضياء، وفي الموت حياة حقة..
وشاهدت الأشياء مؤنسة، والأصوات ذكراً..
فالموجودات كلها ذاكرات مسبحات.
ولقد وجدت الفقر كنـز الغنى وأبصرت القوة في العجز.
إن وجدت اللّٰه فالأشياء كلها لك.
نعم، إن كنت عبداً لمالك الملك، فملكه لك..
وإن كنت عبداً لنفسك معجباً بها فأبصر بلاءً وعبئاً بلا عدٍ وذقها عذاباً بلا حد.
وإن كنت عبداً للّٰه حقاً مؤمناً به، فأبصر صفاءً بلا حدٍ، وذق ثواباً بلا عد ونَل سعادة بلا حدٍ.
وقرأت قصيدة الأسماء الحسنى للشيخ الكيلاني قُدس سره ([5]) بعد عصر يوم من أيام شهر رمضان المبارك -وذلك قبل خمس وعشرين سنة- فوددت أن أكتب مناجاة بالأسماء الحسنى، فكُتب هذا القدر في حينه، إذ إنني أردت كتابة نظيرة لمناجاة أستاذي الجليل السامي، ولكن هيهات، فإني لا أملك موهبة في النظم. لذا عجزت، وظلت المناجاة مبتورة...»
هو الباقي
حكيمُ القضايــا نحن في قَبْض حُكمه
هو الحَكَمُ العدلُ له الأرض والسماءُ
عليمُ الخفايــــا والغيوب في مُلـــكــــــــه
هو القــــادرُ القيومُ لـه العرش والثــــراء
لطيفُ المزايــا والنقـوش في صُنـعــــــه
هو الفاطرُ الودودُ له الحُسن والبـهـــاءُ
جليلُ المرايـــا والشـــؤون في خــلقـــــه
هو الملكُ القدوسُ لـه العز والكبرياء
بديع البـرايـــــا نحن من نقش صُنـــعــــه
هو الدائمُ البـــاقي له المـلك والبقـــــــاءُ
كريمُ العطايــــا نحن مِن ركبِ ضيـفـــه
هو الرزاقُ الكـافي له الحمد والثنـــــــاء
جميل الهدايـــا نحن من نسـج علمــــه
هو الخالقُ الوافي له الجــودُ والعطـــاء
سميعُ الشكايـــــا والدعاءِ لخـَــلـقِــــــــــــه
هو الراحمُ الشـافي له الشــــكر والثنــاء
غفـور الخطـايـــــا والذنـــوبِ لـعبـــــــــده
هو الغفّار الرحيمُ لــه العفوُ والرضــــاء
[1]() اللمعات، اللمعة السادسة والعشرون، الرجاء الثالث عشر.
[2]() اللمعات، اللمعة السادسة والعشرون، الرجاء الحادي عشر.
[3]() اتخذ دعاء "الجوشن الكبير" و"الاسم الأعظم" وردا له في تل يوشع. (ب) 882 عن لمعه لر (عثمانية).
[4]() اللمعات، اللمعة السادسة والعشرون، الرجاء الخامس.
[5]() تبدأ القصيدة بالآتي:
شرعت بتوحيد الإله مبسملا سـأختم بالذكر الحميد مجملا
وأشهد أن اللّٰه لا ربّ غيـــــــره تنزّه عن حصـر العقول مكملا
ويختمها بالأبيات الآتية:
أنا الحسني الأصلِ عبدُ لقـــــــــادرٍ دعيتُ بمحي الدين في دوحة العلا
وصلّ على جَدّي الحبيب محمدٍ بأحلى ســــــلام في الوجود وأكملا
مع الآل والأصحاب جمعاً مؤبدا وبعدُ فحــمـــد اللّٰه خـتـــــــــــــــــماً وأولا
(عن مجموعة الأحزاب للكمشخانوي 1 ص575)
