مع مصطفى كمال
على الرغم من قراءة البيان إلى النواب إلاّ أنه سبّب نقاشاً مع مصطفى كمال.. حيث قال له أمام ما يقرب من ستين نائباً: "إننا لا شك بحاجة إلى عالم قدير مثلكم، فقد دعوناكم إلى هنا للاستفادة من آرائكم السديدة، فاستجبتم الدعوة، إلا ان أول عمل قمتم به هو كتابة أمور حول الصلاة فبذرتم الخلاف فيما بيننا".
فأجابه بأجوبة شافية ثم قال له محتداً مشيراً بإصبعه إليه: "باشا.. باشا.. إن أعظم حقيقة في الإسلام -بعد الإيمان- هي الصلاة، والذي لا يصلي خائن، وحكم الخائن مردود".
فاضطر الباشا إلى كظم غيظه وإلى إعطاء بعض الترضية له. ([1])
يقول: «فقد عرض عليّ -مصطفى كمال- تعييني في وظيفة الواعظ العام في الولايات الشرقية براتب قدره ثلاثمائة ليرة في محل الشيخ السنوسي(*) وذلك لعدم معرفة الشيخ اللغة الكردية. وكذلك تعييني نائباً في مجلس المبعوثان (المجلس النيابي) وفي رئاسة الشؤون الدينية مع عضوية في "دار الحكمة الإسلامية"، وكان يريد بذلك إرضائي وتعويضي عن وظيفتي السابقة..
ولكني عندما لاحظت أن قسماً مما جاء من الأخبار في المتن الأصلي لرسالة "الشعاع الخامس" ينطبق على شخص شاهدته هناك، فقد اضطررت إلى ترك تلك الوظائف المهمة، إذ اقتنعت بأن من المستحيل التفاهم مع هذا الشخص أو التعامل معه أو الوقوف أمامه، فنبذت أمور الدنيا وأمور السياسة والحياة الاجتماعية، وحصرت وقتي في سبيل إنقاذ الإيمان فقط... ([2])
ولما سألني بعض الموظفين المرموقين: "لماذا لم تقبل ما عرضه عليك مصطفى كمال حول جعلك واعظاً عاماً ومسؤولاً عن عموم "كردستان" والولايات الشرقية بدلاً عن الشيخ السنوسي براتب قدره ثلاثمائة ليرة ذلك، لأنك لو كنت قبلت هذا العرض منه لكنت سبباً في إنقاذ أرواح مئات الآلاف من الرجال الذين ذهبوا ضحية الثورة؟". ([3])
قلت لهم جواباً على سؤالهم هذا: "بدلاً من قيامي بإنقاذ عشرين أو ثلاثين سنة من الحياة الدنيوية لهؤلاء الرجال، فإن رسائل النور كانت وسيلة وسبباً لإنقاذ ملايينِ السنين للحياة الأخروية لمئات الآلاف من المواطنين، أي إنها قامت بعمل يكافئ أضعاف تلك الخسارة بآلاف المرات، فلو أنني قبلت ذلك العرض لما ظهرت رسائل النور التي تحمل في طياتها سر الإخلاص والتي لا تكون تابعاً لأي أحد ولا وسيلة استغلال لأي شيء كان. حتى إنني قلت لأصدقائي المحترمين في السجن: لو أن الحكام الموجودين في أنقرة الذين آلمتْهم صفعات رسائل النور الشديدة فحكموا عليّ بالشنق، ثم استطاعت رسائل النور أن تنقذ إيمانهم وأن تنقذهم من الإعدام الأبدي، فاشهدوا بأنني أصفح عنهم من كل قلبي ». ([4])
وحيث إنه أدرك الفتنة التي بدأت تعم العالم الإسلامي، والتي استعاذت منها الأمة منذ ألف وأربعمائة سنة وشاهد مَن هم مسعرو نارها.. تناقش مع مصطفى كمال في أحد الأيام طوال ساعتين وأفهمه أن القيام بإزالة الشعائر الإسلامية ابتغاءَ الحصول على شهرة لدى أعداء الإسلام دمار وأيّ دمار لهذه الأمة وفساد للبلاد والعباد، فإن كان لا بد من انقلاب فليكن بالاستناد إلى القرآن الكريم وجعله دستوراً للدولة الحديثة. ([5])
[1]() الشعاعات، الشعاع الرابع عشر.
[2]() الشعاعات، الشعاع الرابع عشر.
[3]() حدثت في الولايات الشرقية (كردستان) عدة ثورات، كان أهمها الثورة التي قادها أحد مشايخ الصوفية الكردية "الشيخ سعيد بيران (البالوي)" ضد سياسة مصطفى كمال التي اندلعت في 13/2/1925 فاستغلت السلطة الموقف فأصدر المجلس النيابي قانون إقرار السكون فأخمدت جميع الثورات ومنها هذه الثورة فاُعدم قائد الثورة وسبعةً وأربعون ممن معه فى29/6/1925 ثم تتابعت الإعدامات.
[4]() الشعاعات، الشعاع الثاني عشر.
[5]() T.Hayat, ilk hayatı يمكن مراجعة المثـال اللطيف الذي أورده الأســـــــتاذ لمصطفى كمال في المكتوبات، المكتوب التاسع والعشرون، القسم السادس.
