في "بارلا"

 

وصل الأستاذ سعيد النورسي إلى منفاه "بارلا"([1]) من أعمال "إسبارطة" في غربي الأناضول في 1/3/1927 ([2]) حيث قضى الليلة الأولى في مخفر الشرطة، ثم خصص لإقامته بيت صغير يتألف من غرفتين ويطلّ على مروج "بارلا"، وبساتينها الممتدة إلى بحيرة "أغريدير" العذبة، أمامها شجرة الدلب العالية.

صنع أحد النجارين غُرفة خشبية مكشوفة صغيرة وضعت بين أغصانها. فكان الأستاذ يقضي فيها أغلب أوقاته في فصلي الربيع والصيف متعبداً للّٰه، ومتأملاً ومتفكراً حتى انبلاج الصباح في معظم الأحيان، فلا يعرف أهالي "بارلا" متى ينام الأستاذ ومتى يستيقظ! ولا يمر أحد قرب تلك الشجرة في سكون الليل إلاّ ويسمع هَمْهمة العالم المُتعبّد المتهجد.

كان الأستاذ معتل الصحّة دائماً وكان قليل الإقبال على الطعام، بل يمكن القول بأنه قضى عمره كله وهو نصف شبعان ونصف جائع، إذ كان يقضي يومه الكامل بإناء صغير من الحساء مع كسرات من الخبز، ويأتيه طعامه من بيت أحد الجيران، وكان يدفع ثمن الطعام دائماً وبإصرار، إذ كان شعاره الذي طبّقه طوال حياته هو ألاّ يأخذ شيئاً من أحد دون مقابل، وقضى حياته كلها بالاقتصاد والبركة وعلى ما ادّخره سابقاً من الليرات.

كانت عيون السُلطة تترصّدُ الأستاذ وتُراقب حركاته وسكناته لذا كان الأهالي يتجنبون الاقتراب منه والتحدث إليه، فكان يقضي أكثر وقته في البيت أو يخرج في فصلي الربيع والصيف إلى جبل "جام".([3]) ويختلي هناك بنفسه في قمة الجبل وبين الأشجار متأملاً ومتعبداً.([4])

 

[1]() يقص "شوكت دميرآي" وهو الجندي المكلّف بنقل الأستاذ النورسي إلى ناحية "بارلا" ذكرياته فيقول:

    "كنت في مدينة "أغريدير" عندما استدعوني إلى مركز البلدية صباح أحد الأيام.. فذهبت إليه وكان هناك القائمقام وآمر الجندرمة مع أعضاء هيئة البلدية وشخص معمم في العقد الرابع من عمره يلبس جبّة وله هيئة وقورة. خاطبني آمر الجندرمة قائلاً: "اسمع يا بني، عليك أن تأخذ شيخنا هذا المعروف ببديع الزمان إلى بارلا. إن وظيفتك هذه مهمة جداً، وعندما تسلّمه إلى المخفر هناك دعهم يوقعوا على الأوراق الرسمية ثم اخبرنا بذلك". قلت له: "حسناً يا سيدي". فخرجت مع الشيخ وفي الطريق قلت له: "يا شيخنا أنت بمثابة والدي وإن هذه وظيفة كلّفتُ بها فأرجو أن لا تستاء منّي". ثم يستمر في وصف الرحلة بالقارب فيقول: "كان الجو بارداً، فالفصل شتاء ومياه البحيرة متجمدة هنا وهناك وأحد جذافي القارب يكسر الثلوج بعصاً طويلة في يده ويفتح بذلك طريقاً للقارب. بدأ الشيخ بديع الزمان بتوزيع بعض الزبيب وبعض الحلوى علينا، كنت أتفحصه بدقة فوجدته هادئاً كل الهدوء إذ كان يتأمل في البحيرة والجبال المحيطة بنا.. ولكون النهار قصيراً فقد أزف وقت صلاة العصر بسرعة. أراد أن يصلي واقفاً فوجّهنا القارب باتجاه القبلة. سمعت صوتاً يقول: اللّٰه أكبر!.. لم أكُن قد سمعت في حياتي كلّها تكبيرة بهذه الرهبة والخشوع، شعرت بأن الشعرَ في أجسادنا قد وقف. لم تكن حركاته وأطواره تشبه أطوار الشيوخ الذين عرفناهم.. كُنا نحاول جهدنا أن نبقي على القارب باتجاه القبلة وعندما أنهى الشيخ صلاته، التفتَ إلينا قائلاً: "شكراً لكم يا إخوتي، لقد أتعبتكم!"... كان شخصاً متواضعاً ودمث الأخلاق». ذكريات عن سعيد النورسي ص30، (ش)  259.

[2]() هذا ما يقرره ويثبته الباحث الأخ نجم الدين شاهين أر، بينما المصادر الأخرى تذكر أنه وصل إلى بارلا في 1926.

[3]() يستغرق الذهاب من بارلا والصعود إلى الجبل أربع ساعات من الزمان مشياً على الأقدام.

 

[4]() T.Hayat, Barla hayatı.

    «خرج الأستاذ أحد أيام الصيف من بيته متوجهاً إلى الجبل كعادته.. كان الجو صحواً والشمس مشرقة وما إن وصل إلى قمة الجبل حتى تلبدت السماء بالغيوم السوداء منذرة باقتراب عاصفة.. وفعلاً ما لبثت السماء أن أرعدت وأبرقت وبدأت الأمطار تسقط بغزارة.. كان الأستاذ وحيداً على قمة الجبل ليس له من ملجأ يتقي به سَيلَ المطر المُنْهَمر سوى الأشجار التي لم تكن هي الأخرى كافية لتمنع عنه البَلل، وبعد مدة ليست بالقصيرة خفت شدة المطر وأخذ ينـزل رذاذاً، وانتهز الأستاذ الفرصة وقفل راجعاً إلى البلدة، وقد تبلّل من رأسه إلى أخمص قدميه، وفي الطريق تمزق حذاءه، فدخل البلدة وهو يَحمل حذاءه بيده ويغوص في الطين بجواربه الصوفية البيضاء.

    وهناك بالقرب من نبع الماء كان جمع من أهالي "بارلا" مجتمعين يتحدثون، شاهدوا هذا المنظر المؤثر، منظر العالم الجليل المهيب المنفي عن موطنه.. الوحيد.. المقاطع من قبل الجميع، وهو يحمل حذاءه الممزق بيده، ويغوص في الطين بجواربه، وقد تلطخت أطراف ثيابه بالطين. خيّم سكون ثقيل على الجميع وتجاذبت الكثيرين عاطفتان مختلفتان، عاطفة الإسراع لمد يد المساعدة إليه، وعاطفة الخوف من عيون السلطة المترصدة لكل حركة من حركاته، وأخيراً يندفع من بين الجمع شخص اسمه "سليمان" ويصل إليه حيث يأخذ الحذاء من يده ويغسله في الحوض ثم يرافقه حتى منـزله ويصعد معه إلى غرفته.ويصبح (سليمان كروانجي) هذا أول صديق له ويتتلمذ على يديه ويقوم بخدمته ثماني سنوات في بارلا. وكان مثالاً للصدق والوفاء والإخلاص. توفي في سنة 1965 رحمه اللّٰه رحمة واسعة». ذكريات عن سعيد النورسي ص32 (ش)  277.

Ekranı Genişlet