نماذج من التفكر في آيات الكون
«بينما كنت على قمة جبل في "بارلا" أيام منفاي، أسرح النظرَ في أشجار الصنوبر والقَطِران والعَرعرَ، التي تغطي الجهات. وأتأمَّلُ في هيبة أوضاعها وروعة أشكالها وصورها. إذ هَبّ نسيم رقيق حوّل ذلك الوضع المهيب الرائع إلى أوضاع تسبيحات وذكر جذابة واهتزازات نشوة شوق وتهليل. وإذا بذلك المشهد البهيج السار يتقطر عِبَراً أمام النظر، وينفث الحكمة في السمع. وفجأة خطرت ببالي الفقرة الآتية بالكردية لـ"أحمد الجزري":
هَرْكَسْ بِتَمَاشَا.. حُسْنَاتَه زِهَرْ جَاى تَشْبِيهِ... رَانْ بِجَمَالاَتَه دِنَازِنْ ([1])
أيْ لقد أتى الجميع مسرعين من كل صوب لمشاهدة حسنك، إنّهم بجمالك يتغنجون ويتدللون.
وتعبيراً عن معاني العبرة، بكى قلبي على هذه الصورة:
ياَ رَب! هَرْ حَىْ بِتَمَاشَاكه صُنْعِ تُو زِهَرْ جَاى بَتَازِى
يا رب! إنَّ كل حي، يتطلع من كل مكان، فينظرون معاً إلى حسنك، ويتأملون في روائع الأرض التي هي معرض صنعك.
زِنَشِيبُ اَزْ فِرَازِى مَانَنْدِ دَلاَلاَنْ بِنِدَاءِ بِآوَازِى
فهم كالدعاة الأدلاء، ينادون من كل مكان، من الأرض، ومن السماوات العلى إلى جمالك...
[إلى أن يقول:]
"رُوحَه" مِي آيَدْ اَزُو زَمْزَمَهءِ نَازُو نِيَازِى
أمَّا الروح فقد تعلمت من هذه المشاهد:
إنَّ الأشياء تتوجه إلى تجليات أسماء الصانع الجليل بالتسبيح والتهليل فهي أصوات وأصداء تضرعاتها وتوسلاتها.
قَلْب مِي خَوانْد أزِينْ آيَاتْهَا سِرِّ تَوْحِيدْ زِعُلُوِّ نَظْمِ إِعْجَازِى
أمَّا القلب فإنه يقرأُ من النظم الرفيع لهذا الإعجاز سر التوحيد في هذه الأشجار كأنها آيات مجسمات.
أيْ إنَّ في خلق كل منها من خوارق النظام وإبداع الصنعة وإعجاز الحكمة ما لو اتحدت أسباب الكون كلُّها، وأصبحت فاعلة مختارة، لعجزت عن تقليدها.
نَفْس مِي خَواهَدْ دَرْ إِينْ وَلْوَلَهَا، زَلْزَلَهَا ذَوْقِ بَاقِى دَرْ فَنَاىِ دُنْيَا بَازِى
أمَّا النفس؛ فكلما شاهدت هذا الوضع للأشجار، رأتْ كأنَّ الوجودَ يتدحرج في دوّامات الزوال والفراق. فتحرّت عن ذوقٍ باقٍ، فتلقت هذا المعنى: "إنَّكِ ستجدين البقاء بترك عبادة الدنيا".
عَقْل مِى بِينَدْ أزِينْ زَمْزَمَهَا.. دَمْدَمَهَا نَظْمِ خِلْقَتْ، نَقْشِ حِكْمَتْ، كَنْزِ رَازِى
أمَّا العقل فقد وجد انتظام الخلقة، ونقش الحكمة وخزائن أسرار عظيمة في هذه الأصوات اللطيفة المنبعثة من الأشجار والحيوانات معاً، ومن أنداء الشجيرات والنسائم. وسيفهم أنَّ كلَّ شيء يسبّح للصانع الجليل بجهات شتى.
آرْزُو مِيدَارَدْ هَوَا أزِينْ هَمْهَمَهَا.. هُوهُوَهَا مَرْ خُودْ دَرْ تَرْ أذْوَاقِ مَجَازِى
أمَّا هوى النفس، فإنَّه يلتذ ويستمتع من حفيف الأشجار وهبوب النسيم ذوقاً لطيفاً ينسيه الأذواق المجازية كلها، حتى إنَّه يريد أنْ يموت ويفنى في ذلك الذوق الحقيقي، واللذة الحقيقية بتركه الأذواق المجازية، التي هي جوهر حياته.
خَيَالْ بِينَدْ أزِينْ أشْجَارْ مَلا رَا جَسَدْ آمَدْ سَمَاوِى، بَاهَزَارَانْ نَىْ
أمَّا الخيال فإنّه يرى كأنَّ الملائكة الموكلين بهذه الأشجار قد دخلوا جذوعها ولبسوا أغصانها المالكة لقصيبات الناي بأنواع كثيرة. وكأنَّ السلطان السرمدي قد ألبسهم هذه الأجساد في استعراض مهيب مع آلاف أنغام الناي، كي تُظهِر تلك الأشجار أوضاع الشكر والإمتنان له بشعور تام، لا أجساداً ميتة فاقدة للشعور.
أزِينْ نَيْهَا شُنِيدَتْ هُوشْ سِتَايِشْهَاىِ ذَاتِ حَىْ
فتلك النايات مؤثرة الأنغام صافيتها، إذ تخرج أصواتاً لطيفة كأنَّها منبعثة من موسيقى سماوية علوية، فلا يسمع الفكر منها شكاوى آلام الفراق والزوال، كما يسمعها كل العشاق وفي مقدمتهم "مولانا جلال الدين الرومي" بل يسمع أنواع الشكر للمنعم الرحمن، وأنواع الحمد تقدم إلى الحي القيوم.
وَرَقْهَارَا زَبَانْ دَارَنْدَ هَمَه "هُو هُو" ذِكْرآرَنْد بَه دَرْ مَعْنَاىِ: حَىُّ حَىْ
وإذْ صارت الأشجار أجساداً. فقد صارت الأوراق كذلك ألسنة. كل منها تردد بآلاف الألسنة ذكر اللّٰه بـ"هو.. هو.." بمجرد مسّ الهواء لها. وتعلن بتحيات حياته إلى صانعه الحي القيوم.
جُو "لاَ اِلٰهَ اِلاَّ هُو" بَرَابَرْ مِيزَنْد هَرْ شَىْ
لأنَّ جميع الأشياء تقول: "لا إله إلا هو" وتعمل ضمن حلقة ذكر الكائنات العظمى..»([2])
[1]() انظر: العقد الجوهري في شرح ديوان الشيخ الجزري ص438.
[2]() الكلمات، الكلمة السابعة عشرة.
