عريضة مقدمة إلى مجلس الوزراء

 

يا أهل الحل والعقد!

لقد تعرضت لظلم يندر وجوده في الدنيا. ولما كان السكوت على هذا الظلم يعدّ استهانة بالحق وعدم احترام له فقد اضطررت إلى إفشاء حقيقة مهمة جداً، فأقول:

إما قوموا بإعدامي وببيان ذنبي الذي استلزم حكماً مقداره مائة سنة وسنة ضمن دائرة القانون وإطاره، أو برهِنوا على أنني مجنون وفاقد للعقل، أو أعطوا لرسائلنا ولنا ولأصدقائنا الحرية الكاملة وحاسِبوا الذين تسببوا في إيقاع الأذى بنا.([1])

أجل، لا بد أن يكون لكل حكومة قانون واحد، وأصول واحدة، حيث تُعطى العقوبات على أساس ذلك القانون، فإذا لم يكن في قوانين الحكومة الجمهورية ما يبرر إيقاع الأذى الشديد بي وبأصدقائي فإن من المفروض ومن الواجب تقديم الترضية الضرورية والتقدير والمكافأة لنا مع إعطائنا كامل الحرية، ذلك لأنه لو كانت خدمتي القرآنية تعدّ عملاً عدائياً موجهاً ضد الحكومة، فإنه يلزم إصدار حكم عليّ بالسجن لمدة مائة سنة وسنة أو بالإعدام، وكذلك إصدار عقوبات قاسية على الذين ارتبطوا معي في هذه الخدمة بشكل جدي بدلاً من الحكم عليّ بسنة واحدة وعلى أصدقائي بستة أشهر. فإن لم تكن خدماتنا هذه موجهة ضد الحكومة، فعليها أن تقابلنا بالتقدير والمكافأة بدلاً من العقاب والسجن والأذى والاتهام. ذلك لأن مائة وعشرين رسالة، أصبحت ترجماناً لهذه الخدمة، واستطاعت أن تتحدى فلاسفة أوروبا وأن تهدم كل أسسهم الفكرية وتجعلها أثراً بعد عين.

لا شك أن هذه الخدمة الفعالة والمؤثرة ستؤدي إما إلى نتيجة مخيفة، أو إلى ثمرة علمية راقية ونافعة جداً، لذا لا يمكن إصدار قرار بحبسي سنة واحدة وكأننا نلعب لعب الأطفال من أجل ذر الرماد على العيون واستغفال العامة والتستر على مؤامرات الظالمين ضدنا، ذلك لأن أمثالي إما أن يصعدوا على المشنقة بكل فخر ويعدموا، وإما أن يكونوا أحراراً في الموقع الذي يستحقونه.

أجل، إن اللص الماهر الذي يستطيع أن يسرق ألماسات بقيمة آلاف الليرات، إن قام بسرقة قطع زجاجية بقيمة عدة قروش وتم الحكم عليه بنفس الحكم من سرقة ألماسات ثمينة، فإنه ما من لص أو ذي عقل وشعور يفعل ذلك. لأن أمثال هذا اللص يكون ذكياً وحاذقاً ولا يتورط في عمل في غاية الحمق والبلاهة.

أيها السادة!

لنفرض أنني كنت مثل ذلك اللص حسب ما تتوهمون، فلماذا أختار ناحية بائسة من نواحي مدينة "إسبارطة" حيث بقيت منـزوياً فيها مدة تسع سنوات. إذن فبدلاً من توجيه أفكارِ بضعةٍ من الأفراد المخلصين "الذين تم الحكم عليهم بأحكام خفيفة" نحو معاداة الحكومة وإلقاءِ نفسي ورسائلِ النور -التي هي غاية حياتي وهدفها- في الخطر فقد كان من الأفضل لي البقاء في موقع كبير في "أنقرة" أو في "إسطنبول" -كما كنت في السابق- وتوجيه الآلاف من الناس نحو الغاية التي ابتغيها، عند ذلك كنت أستطيع أن أتدخل وأن أشارك في أمور الدنيا بعزة تليق بمسلكي بدلاً من التعرض لمثل هذه العقوبة التافهة والذليلة.

ولأجل أن أبين مدى الخطأ الذي يقع فيه الذين يريدون دفعي إلى رتبة واطئة لا نفع فيها ولا أهمية لها، فإنني أقول مضطراً مذكراً ببعض أنانيتي وريائي السابقين وليس من أجل الفخر والمدح:

إن الذين تيسرت لهم رؤية دفاعي الذي طبع تحت عنوان "شهادة مدرستين للمصيبة" يشهدون أنه استطاع بخطبة واحدة جلب ثماني كتائب من الجنود إلى الطاعة في أحداث 31 مارت، وكما كتبتْ الجرائد آنذاك استطاع بمقالة واحدة في زمن حرب الاستقلال باسم "الخطوات الست" أن يحوّل رأى العلماء في إسطنبول ضد الإنكليز، مما كان له أثر إيجابي كبير في الحركة الملية "الوطنية" وفي جامع أياصوفيا استمع الآلاف إلى خطبته، وفي مجلس المبعوثان "المجلس النيابي" في أنقرة استُقبل بتصفيق حار وقام مائة وثلاث وستون نائباً بالموافقة على تخصيص مائة وخمسين ألف ليرة لمدرسة دار الفنون "الجامعة"، وعندما دعا إلى الصلاة قابل حدة رئيس الجمهورية في ديوان الرئاسة وردّ عليه دون خوف أو وجل([2]) وعندما كان في "دار الحكمة الإسلامية" رأت حكومة الاتحاد والترقى بالإجماع أنه أوفق شخص لتبليغ الحكمة الإسلامية إلى حكماء أوروبا بشكل مؤثر. أما كتابه "إشارات الإعجاز" الذي ألّفه في جبهات القتال -والذي تمت مصادرته الآن- فقد أعجب به القائد العام أنور باشا إعجاباً كبيراً إلى درجة أنه هرع إلى استقباله بكل احترام -وهذا ما لم يفعله مع أحد- وقرر إعطاء الورق اللازم لطبع هذا الكتاب لكي تكون له حصة من شرف تلك الهدية ومن ثوابها، هدية الحرب، كما ذُكر جهاد مؤلف الكتاب في الحرب بكل خير وبكل تقدير..

فمثل هذا الرجل لا يستطيع أن يسكت على معاملته بهذه الصورة وكأنه تورط في جرائم تافهة كسرقة بغلة أو خطف بنت أو نشل جيب، لأنه لو سكت لكان هذا وصمة له ولعزته العلمية القدسية ولخدماته وللألوف المؤلفة من أصدقائه الغالين، لأنكم عندما تعاقبونه بحبسه سنة واحدة فكأنكم تعاملونه معاملة سارق نعجة أو خروف. فبعد قيامكم بوضعه دون أي سبب تحت الإقامة الجبرية وتحت المراقبة مدة عشر سنوات مليئة بالمضايقات وبالآلام، وبعد هذا التعذيب تقومون الآن بحبسه سنة واحدة وبإبقائه تحت الإقامة الجبرية سنة أخرى. وبدلاً من معاناته من تحكم وتجبر شرطي عادي أو رجل بوليس سري عادي -وهو الذي لم يتحمل تحكم السلطان- فإنه من الأفضل والأولى له أن يُشنق. ولو أن مثل هذا الرجل أراد التدخل في أمور الدنيا ورغب في ذلك، وكانت وظيفته ومهمته المقدسة تسمح له بذلك، إذن لاستطاع أن يقود أمراً أعظم بعشرات المرات من حادثة "منمن" ومن ثورة "الشيخ سعيد" أي لأسمعكم صوتاً راعداً كدوي المدافع وليس طنيناً كطنين أجنحة الذباب!

أجل، إنني أعرِض أمام أنظار حكومة الجمهورية بأن ما أتعرض له حالياً من مصائب ومن بلايا هو نتيجة لمؤامرات ودعايات منظمة بلشفية سرية، فهناك جو من الدعايات العامة الشاملة التي لم يشاهَد لها مثيل في السابق وجو من الخوف ومن الإرهاب، والدليل على هذا هو أنه ما من أحد من أصدقائي -الذين يبلغ عددهم مائة ألف- استطاع أن يبعث لي رسالة واحدة منذ ستة أشهر ولم يستطع أن يرسل لي تحية أو سلاماً. وأصحاب المؤامرات هذه الذين يحاولون خداع الحكومة واستغفالها استطاعوا بتقاريرهم السرية ترتيب تحقيقات واستجوابات وتحريات في كل مكان بدءً من الولايات الشرقية للبلد إلى الولايات الغربية.

إن الخطة التي كان المتآمرون يحيكونها رتبت وكأن هناك حادثة مهمة أعاقَب عليها -مع الآلاف من الأشخاص مثلي- عقاباً قاسياً، ولكنها انتهت في الأخير إلى عقوبة تافهة جداً يمكن أن تفرض على أي شخص اعتيادي قام بحادثة سرقة تافهة، إذ عوقب خمسة عشر شخصاً بريئاً من بين مائة وخمسة عشر بالسجن لمدة ستة أشهر. فهل هناك شخص يملك شعوراً وعقلاً يقوم بوخز أسد كبير في ذيله وخزة خفيفة بسيف قاطع حاد يحمله في يده فيثيره ضده؟ ذلك، لأنه لو كان يريد حفظ نفسه من ذلك الأسد أو لو كان يريد قتله لاستعمل ذلك السيف القاطع في موضع آخر من ذلك الوحش.

إن قيــامكم بإصدار عقوبة خفيفة ضدي يــدل على أنكم تتوهمون أنني مثل هذا الرجـل. ولو أنني كنت شخصاً يتصرف مثل هذا التصرف البعيد عن العقل وعن الشعور فلماذا ملأتم هذا البلد بطوله وعرضه بجو من الخوف؟ وما الداعي لكل هذه الدعايات التي تســتهدف جلب عداء الرأي العام ضدي؟ لقد كان من المفروض أن تتعاملوا معي كتعاملكم مــع مجنون عـادي فترســـلوني إلى مســتشــفى المجاذيب.

أما لو كنت شخصاً مهماً كأهمية التدابير التي تتخذونها ضدي، فليس من العقل ومن المنطق وخز ذلك الأسد أو ذلك الوحش في ذيله وإثارته للهجوم عليه، بل عليه أن يحافظ قدر الإمكان على نفسه منه. وهكذا فإنني فضلت حياة الانزواء منذ عشر سنوات باختياري وتحملت من الآلام والمضايقات مالا يتحمله إنسان، ولم أتدخل في أي شأن من شؤون الحكومة ولم أرغب في ذلك أصلاً، ذلك لأن مهمتي المقدسة تمنعني من هذا.

يا أهل الحل والعقد!

هل من الممكن لمن استطاع قبل خمس وعشرين سنة -بشهادة جرائد ذلك الوقت- أن يكسب إلى جانب أفكاره ثلاثين ألف شخص بمقالة واحدة كتبها، وجلب نحوه أنظارَ واهتمامَ جيشِ الحركة، وأجاب بست كلمات على أسئلةِ كبيرِ قساوسةِ إنكلترة الذي طلب الإجابة عليها بستمائة كلمة، والذي كان يخطب في بداية عهد الحرية كأي سياسي متمرس... هل من الممكن ألاّ يوجد في مائة وعشرين رسالة من رسائل هذا الشخص سوى خمس عشرة كلمة تتعلق بالسياسة وبأمور الدنيا؟ أيمكن لأي عقل أن يقتنع بأن مثل هذا الرجل يسلك طريق السياسة وله أهداف دنيوية؟ لأنه لو كان يهتم بالسياسة وبالتعرض للحكومة لظهر ذلك صراحةً أو إيماءً في مائة موضع من كتاب واحد فقط. ولو كانت غايته توجيه النقد السياسي أمَا كان بإمكانه أن يجد ما ينقده غير موضوع الحجاب وغير موضوع الميراث وهما من المواضيع ومن الدساتير الموجودة منذ السابق؟

إن أي شخص يملك فكراً سياسياً معيناً يستطيع أن يجد مئات الآلاف من المواضيع التي ينتقدها لنظام هذه الحكومة التي قامت بانقلاب كبير، ولا يقتصرَ على موضوعين معلومين فقط. فهل يمكن حصر الانقلاب الذي قامت به حكومة الجمهورية على مسألتين صغيرتين فقط؟ ومع أنني لم أقصد توجيه أي انتقاد لها فقد التقطوا كلمتين أو ثلاثاً وردت في كتاب أو كتابين كتبتهما سابقاً وادّعوا بأنني أهاجم نظام الحكومة وأهاجم انقلابها. وأنا أسألكم الآن: هل يعقل إشغال البلد بطوله وعرضه ونشر جو من الخوف فيه لمجرد تناولي لمسألة علمية لا تتطلب إصدار أية عقوبة من جرائها مهما كانت صغيرة؟

إن القيام بإصدار عقوبة خفيفة وتافهة في حقي وفي حق بضعة أشخاص من أصدقائي ونشر دعايات مكثفة وشديدة ضدنا في عموم البلد، وإشاعة جو من الخوف والإرهاب بين الناس لكي ينفّروهم منا ويبغّضونا في أعينهم، وجلب وزير الداخلية "شكري قايا" قوة كبيرة إلى مدينة إسبارطة لتقوم بمهمةٍ يستطيع القيام بها جندي واحد -وهي القيام بإلقاء القبض علي وسجني- وقيام رئيس الوزراء عصمت "إينونو" بزيارة الولايات الشرقية بهذه المناسبة، وكذلك منعي من الحديث والتكلم شهرين كاملين في السجن وعدم السماح لأي أحد بالسؤال عن حالي أو إرسال تحية لي وأنا وحيد في هذه الغربة.. كل هذا يشير إلى وضع غريب جداً لا معنى له ولا حكمة فيه لا تليق بأية حكومة في الدنيا -علما بأن مصدر كلمة "الحكومة" هو تناول الأمور بالحكمة- وليس فقط بحكومة الجمهورية التي من المفروض أنها تراعي القوانين وتحترمها.

إنني أريد حفظ حقوقي في إطار القانون. كما أتهم كل من يخالف القانون ويدوس عليه باسم القانون بأنه يرتكب جناية، ولا شك أن قوانين حكومة الجمهورية ترفض أعمال هؤلاء الجناة، وآمل أن تعاد لي حقوقي».

سعيد النورسي([3])

 

[1]() هذه لائحة لتصحيح الحكم الصادر بحقنا تقدم إلى مجلس الوزراء ومجلس النواب ووزارة الداخلية ووزارة العدل، إن لم يرد النقض من محكمة التمييز. فلئن لم أتمكن من أن أسمع مصيبتي الحقة وحقي الجدير بالاهتمام هذه المراجع، يستوجب عليّ أن أودّع هذه الحياة، لأن سكوتي يعني تضييع ألوف الحقوق مع حقي الشخصي. (المؤلف)

[2]() يطلب سعيد القديم حق الكلام ويقول: لم تسمحوا لي بالكلام منذ ثلاث عشرة سنة، والآن يلزم كلامي معهم لأنهم يتهمونك بأخذهم إياي تحت النظر ويتوجسون منك خيفة؛ يلزم إظهار الأنانية -رغم أنها صفة ذميمة - تجاه الأنانية المغرورة العنيدة، ولكن بصورة حقة ودفاعاً عن النفس فحسب وحفاظاً عليها. لذا لا أتكلم مثل سعيد الجديد بالتواضع التام وإنكار الذات وبالقول اللين.. وأنا بدوري أعطيت له حق الكلام مع أنى لا أشترك في أنانيته وتمدّحه. (المؤلف)

[3]() الشعاعات، الشعاع الرابع عشر، عريضة مقدمة إلى مجلس الوزراء.

Ekranı Genişlet