رسائل من سجن أسكي شهر
لطمة رحمة
«إخوتي!
لقد أدركت أن التي نزلت بنا -مع الأسف- هي لطمة رحمة، أدركتها منذ حوالي ثلاثة أيام وبقناعة تامة. حتى إنني فهمت إشارة من الإشارات الكثيرة للآية الكريمة الواردة بحق العاصين للّٰه، فهمتها كأنها متوجهة إلينا وتلك الآية الكريمة هي: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ.. أَخَذْنَاهُم..﴾([1]) أي لما نسي الذين ذُكّروا بالنصائح، ولم يعملوا بمقتضاها.. أخذناهم بالمصيبة والبلاء.
نعم، لقد كُتّبنا مؤخراً رسالة تخص سر "الإخلاص" وكانت حقاً رسالة رفيعة سامية، ودستوراً أخوياً نورانياً، بحيث إن الحوادث والمصائب التي لا يمكن الصمود تجاهها إلاّ بعشرة آلاف شخص، يمكن مقاومتها -بسر ذلك الإخلاص- بعشرة أشخاص فقط. ولكن أقولها آسفاً: إننا لم نستطع وفي المقدمة أنا، أن نعمل بموجب ذلك التنبيه المعنوي، فأخذتنا هذه الآية الكريمة -بمعناها الإشاري- فابتلي قسم منا بلطمة تأديب ورحمة، بينما لم تكن لطمة تأديب لقسم آخر بل مدار سلوان لهم، وليكسبوا بها لأنفسهم الثواب.
نعم، إنني لكوني ممنوعاً عن الاختلاط منذ ثلاثة شهور لم أستطع أن أطلع على أحوال إخواني إلاّ منذ ثلاثة أيام، فلقد صدر -مالا يخطر ببالي قط- ممن كنت أحسبهم من أخلص إخواني أعمالٌ منافية لسر الإخلاص. ففهمت من ذلك أن معنىً إشارياً للآية الكريمة ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ.. أَخَذْنَاهُم﴾ يتوجه إلينا من بعيد.
إن هذه الآية الكريمة التي نزلت بحق أهل الضلال مبعث عذاب لهم، وهي لطمة رحمة وتأديب لنا؛ لتربية النفوس وتكفير الذنوب وتزييد الدرجات. والدليل على أننا لم نقدر قيمة ما نملك من نعمة إلهية حق قدرها هو: أننا لم نقنع بخدمتنا القدسية برسائل النور المتضمنة لأقدس جهاد معنوي، ونالت الولاية الكبرى بفيض الوراثة النبوية، وهى مدار سر المشرب الذي تحلى به الصحابة الكرام. وأن الشغف بالطرق الصوفية التي نفعها قليل لنا في الوقت الحاضر، واحتمال إلحاقها الضرر بوضعنا الحالي ممكن، قد سُدّ أمامه بتنبيهي الشديد عليه.. وإلاّ لأفسد ذلك الهوى وحدتنا، وأدّى إلى تشتت الأفكار الذي ينـزل قيمة الترابط والتساند من ألف ومائة وأحد عشر الناشئة من اتحاد أربعة آحاد، ينـزلها إلى قيمة أربعة فحسب، ويؤدّى إلى تنافر القلوب الذي يبدّد قوتنا إزاء هذه الحادثة الثقيلة ويجعلها أثراً بعد عين.
أورد الشيخ سعدي الشيرازي(*) صاحب كتاب "كلستان" ما مضمونه: لقد رأيت أحد المتقين من أهل القلب في زاوية -التكية- يزاول السير والسلوك، ولكن بعد مضي بضعة أيام شاهدته في المدرسة بين طلاب العلوم الشرعية، فسألته: لِمَ تركت الزاوية التي تفيض بالأنوار وأتيت إلى هذه المدرسة؟ قال: هؤلاء النجباء ذوو الهمم العالية يسعون لإنقاذ الآخرين مع إنقاذهم لأنفسهم، بينما أولئك يسعون لإنقاذ أنفسهم وحدها إن وفّقوا إليها. فالنجابة وعلو الهمة لدى هؤلاء، والفضيلة والهمة عندهم، ولأجل هذا جئت إلى هنا. هكذا سجّل الشيخ سعدى خلاصة هذه الحادثة في كتابه "كلستان".
فلئن رُجّحت المسائل البسيطة للنحو والصرف التي يقرأها الطلاب مثل: نصر نصرا، نصروا.. على الأوراد التي تُذكر في الزوايا، فكيف برسائل النور الحاوية على الحقائق الإيمانية المقدسة في "آمنت باللّٰه وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر". ففي الوقت الذي ترشد رسائل النور إلى تلك الحقائق بأوضح صورة وأكثرها قطعية وثبوتاً حتى لأعتى المعاندين المكابرين من الزنادقة وأشد الفلاسفة تمرداً، وتلزمهم الحجة، كم يكون على خطأ من يترك هذه السبيل أو يعطّلها أو لا يقنع بها ويدخل الزوايا المغلقة دون استئذان من الرسائل تبعاً لهواه! ويبين في الوقت نفسه مدى كوننا مستحقين لهذه الصفعة، صفعة الرحمة والتأديب.([2])
[1]() نص الآية الكريمة: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾(الأنعام:44)
[2]() اللمعات، اللمعة الثامنة والعشرون.
